جايلك يا عدوية

جايلك يا عدوية
جايلك
      يا
      عدوية

 

 

لا أملك القدرة التى تمنعنى من الاستمتاع بفيلم محمد خان الشهير، الذى قام ببطولته يحيى الفخرانى، واختتمه بجملته الشهيرة.. جايلك يا عدوية. 

طيلة أحداث الفيلم أستغرق فى ذلك الريف الحبيب الذى أتمناه موطنًا لآخر لحظة فى عمرى.. يسرقنى الأخضر الرنان من تفاهات المدينة.. لا أكره زحامها، بل ربما أراه ونسًا يقتل غربتها.. أراه توهة أحتاجها حتى أذوب بعيدًا عن الهاجس الذى يطاردنى دومًا، ويأمرنى أنا المواطن بالعودة إلى هناك. 

ربما ننسى فى زحام تفاصيل حياتنا اليومية.. عشق يحيى لليلاه فى الفيلم.. لكننا قطعًا لا ننسى صوت عدوية.. وصرخته الناعمة.. زحمة وتاهوا الحبايب.. زحمة ولاعدش رحمة.. مولد وصاحبه غايب. 

ربما كانت هذه الأغنية تحديدًا من أبسط أغنيات عدوية.. لكنها الحد الفاصل بين زمنين.. زمن ريف محمد رشدى، وريف قنديل وعبدالمطلب وشريفة فاضل.. وبين عشوائية زمن السادات الذى كان عدوية أحد رموزه وأكثرهم تعبيرًا عن تلك المرحلة. 

كرهت زمن عدوية بفعل ما رتب لنا وما ترتب عليه.. فهو زمن أمريكى بامتياز.. لكننى لم أكره عدوية.. ولم أستوعب مقاطعة اليسار المصرى له وهجومها عليه.. بل أحببته.. وأحببت تجارب حسن أبوعتمان معه وتلمست فيها شعرًا ما كان له أن يعيش دون هذه الحنجرة المبحوحة المحملة بكل مرارات الصعيد وشقاوة وسط البلد وليل القاهرة البديع. 

أحببت ألحان بليغ حمدى وسيد مكاوى وحسن أبوالسعود.. بنفس القدر الذى أحببت فيه تجربة الريس بيرة وألحان محمد عصفور.. ثراء تجربة عدوية لا يقاوم؛ لأنه فنان حقيقى ظلمته أحوال السياسة وتقلباتها ووصمته بسوءات زمن لم يختره وإن كانت تحولاته هى أحد أسباب صعوده رغمًا وغصبًا عن أصحاب الذائقة الكلاسيكية. 

عدوية صاحب جملة حراقة زى فلفل البرارى.. حشرجة هذه الحنجرة منقوعة فى دقة السمسم والكمون.. لا تستطيع تجاهل مذاقها ولا يمكن أن تتنفس بدونها. 

أكثر من نصف قرن تنقل فيها الفتى الصعيدى الذى اعتلى مسرح شارع محمد على مزهرجيًا يعزف الإيقاع فى أفراح حوارى القاهرة لسنوات.. قبل أن تلتقطه نداهة الكاسيت الذى كان بوابته مع العائدين من ليبيا والعراق إلى كل شبر فى المحروسة.. ثم السينما التى وجدت فيه ضالتها لتعبر به وبأغنياته عن فترة من أخطر فترات التاريخ المصرى. 

عدوية لم يكن مجرد مطرب شعبى يمتلك حنجرة متسلطنة ربانى.. ولم يكن الجسر الذى عبرت من خلاله، لم يعرفها قبله تاريخ الشعر الشعبى.. هو أكبر من ذلك بكثير.. ولن نعرف أو ندرك بمعنى أدق حجم تأثير عدوية الآن.. هى عادتنا للأسف.. ولكن بعد سنوات.. سيدرس الكثيرون كيف انقطع حبل التعبير الشعبى بعد عدوية.. كيف توقف فيض نيل الفلكلور المصرى.. ربما كان حكيم بمفرده شكلًا آخر من أشكال ذلك الفلكلور.. لكنه قطعًا لا يملك ثروة عدوية واعدة امتدادًا لتجربته مع اختلاف الظروف. 

خمسون عامًا هى تجربة الرجل.. لكنها اختزنت حكمة آلاف السنوات وعبرت عنها بعفوية غير مسبوقة.. هل تأملت يومًا جملته الشهيرة.. أديك تقول ماخدتش.. وإن خدت ما تدنيش.. أو صورته البديعة.. يا أهل الله ياللى فوق.. ما تطلوا على اللى تحت.

عدوية تعبير سياسى بديع عن سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى.. هو تعبير شامل عن ذلك الزمن.. لكننا لا نراه إلا بعيون ضيقة.. فقط هو يمثل تفاصيل يوميات جيل خرج من نكسة يونيو يرقص مذبوحًا.. ولم يكد يفرح بانتصار أكتوبر حتى صدمته عربة كامب ديفيد الطائشة.. واستلبت روحه روح التنظيمات المتطرفة التى سيطرت على عقول الأزقة والحوارى لسنوات قبل أن تتوقف حنجرة عدوية عن الشدو إثر عملية فاجرة شارك فيها أحد الهواة العابثين.. ربما فى نفس اللحظة التى كان يعبث فيها آخرون فى عقل الأمه العربية بحالها. 

عدوية كرباج محبة.. يستمتع العشاق بلسعته.. وكلما اشتاقوا له.. تمايلوا طربًا معه.. يا ليل يا باشا يا ليل.. اروى العطاشى يا ليل.. لكنهم لا يرتوون. 

عدوية هو التفسير الشعبى لنهاية عصر عبدالحليم.. وهو البداية لجيل الحجار ومنير.. هو التمرد بعينه قبل أن تحل علينا لغة الحداثة والتغريب.. فيه من حرافيش نجيب محفوظ.. ومن رقة قلب مجدى يعقوب.. ومن أنهار وصحارى جمال حمدان.. هو الخلطة المصرية فى واحد من تجلياتها المدهشة.. عدوية سأفتقدك كثيرًا.. لكننى سأعود إلى صوتك مهما خرجت.. تناديك خطواتى قبل حنجرتى.. جايلك.. يا عدوية. 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق الأرصاد: أمطار متفاوتة الشدة بدء من الأحد على هذه المناطق
التالى الجلفة.. تسمم شخصين بالغاز