إبداع|| "هكذا أحيا".. محمد خلف - بورسعيد

إبداع|| "هكذا أحيا".. محمد خلف - بورسعيد
إبداع||
      "هكذا
      أحيا".. محمد
      خلف
      -
      بورسعيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم أكُن يومًا ممن يفكرونَ بالموتِ، عشتُ سنواتيَ السابقةِ متفائلًا محبًا للحياةِ برغمِ ما يحيطُ بى من دمارٍ، اعتدتُ الفقدَ الذي رافقنى طوالَ الطريقِ كخِلٍ وفيٍ لا يفارقُ جانبي، ولم تَنكث رصاصاتُ العدوِ وقذائفِه بوعدِ انتزاعِ الأحبةِ من بين أذرعتي، ولكنى ظللتُ على حالى لم أتغير، أنظرُ لكل شيءٍ بابتسامةٍ، وأرى الشروقَ كل صباحٍ، يحمل نورُه الأملَ فى غدٍ آتٍ بالحريةِ وإن طالَ انتظارُه.

أحملُ بندقيةً روسيةً عتيقةً فى يدي، وأستندُ إلى جدارٍ مهدمٍ معطرٍ بدمِ أحدِ شهدائنا، أرقبُ الميركاڤا المغرورةَ تتقدمُ بثقةٍ، تختالُ بين طرقِ مدينتى الجميلةَ مهما أصابتها أيديهُم، أنتظرُها حتى تقتربُ، أحملُ عبوةَ الفدائيِ وأركضُ نحوَها، أُلصِقُ عُبوتى أسفلَ البرجِ وأحتمى بأطلالٍ ولدَت بينَها أجيالٌ وأحلامٌ وآمالٌ لسنواتٍ وسنواتٍ، ثم وئدَت تحتَ أنقاضِها، يصيبُ أخى العبوةَ برصاصتِه فيطربنى دويُ الانفجارِ.

تغطينى المدينةُ المكلومةُ بجُدُرِها المهَدَمةِ كأمٍ حانيةٍ تخشى على طفلِها من بطشِ البردِ، تُدَثِرُنى اتقاءً لأعينٍ أذقناها الدمعَ والقهرَ أكثرَ من مئةِ يومٍ، تجمعنى بأشقاءِ القضيةِ والإيمانِ بعد أن انتهينا من تلقينِهم حصةَ اليومِ لدرسِ القتالِ من أجلِ الوطنِ، لم يحصلُ أينا على شهادتِه اليوم، ولكن الغدِ لناظرِه قريب.

يحتضننا النفقُ كأبٍ يشتاقُ لأبناءٍ فرَّقَه عنهم سفرٌ طويلٌ، يمنحُنا الدفءِ بلا حسابٍ، نتجمعُ حولَ القائدِ نعطيهُ تقريرَ اليومِ، نتلقى تعليماتَ الغدِ ونذهبُ كلٌ فى طريق.

أجلسُ على حشيةٍ مهترئةٍ، أمسكُ بين يديَ كتابًا قديمًا أطالعُ صفحاتَه بشغفٍ ينقلُنى لعالم كاتبَه الفرنسيِ الأثيرِ، لأقاتل بين شبابِ الحاجزِ لأجلِ التحريرِ، يتلقى صديقى الصغيرِ جافروش رصاصةَ الغدرِ من چافيرِ بعد انكشافِ أمرَهُ فى محاولةٍ يائسةٍ للهربِ، أذرُفُ الدمعَ حين تفارقُ الحياةُ إبونينَ وتنطفئُ الروحُ فى أعينِها اللامعةِ، أتبعِ القديسَ ڤالجانَ وهو يحملُ جسدَ ماريوسَ الفاقدَ للوعيِ من بين الجثثِ لينقلَه إلى برِ الأمانِ، وأحاول خنقَ تناردييه حين يحاولُ مساومَته، وأشاهدَ انتحار الضابطَ المفجوعَ فى قيمِ عاشَ بها وقتلَ لأجلِها، ليكتشفَ أنها كانت محضَ هراءٍ، فيقررُ غسلَ آثامَه بمياهِ السينِ.

أُغلقُ الكتابَ وأحتضنُ بندقيتي، أضعُ رأسيَ على وسادتى الخشنةِ وأغمضُ عينيَ، أزورُ فى الحلمِ عالمًا انتصرَ فيهِ الثوارُ، لم تمت إيبونينُ واستكملت حياةً سعيدةً تستحقُها، كبرَ جافروش وأصبحَ أبا يعلِمُ أبناءَه معنى الحريةِ، ويقصُ عليهِم قصصَ الثورةِ، ووطنًا عادَ وجهُه يتزينُ بالحريةِ، ويتحلى بأشجارِ الزيتونِ، يلتفُ عنقُه بوشاحِ الأحرارِ، وينعمُ برخاءِ عهدٍ قديمٍ.

لم أكن يوما ممن يفكرون فى الموتِ رغمَ الفقدِ والوحشةِ واقترابِه الدائمِ لي، رغمَ التحديقِ بعينيهِ كل يومٍ وإزكامِ رائحتَه لأنفِي، لكنى ألفت عطرَه وأحببتَه، وتمنيتُ أن أتعطرَ به شهيدا فى سبيلِ حريةِ أرضِ أسلافي.

لم أكن أبدا ممن يفكرون فى الموتِ، إلا بصفتَهُ طريقا لمنحِ الحياةِ.

febe6e4a9e.jpg

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بن غفير يقود اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى
التالى 6 معلومات عن مباراة الأهلي أمام المصري في الدوري