النص الكامل لعظة راعي الأبرشية مار بطرس قسيس خلال قداس ليلة عيد الميلاد بحلب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

قال راعي الأبرشية  مار بطرس قسيس في عظة الميلاد والتي القاها خلال القداس في كاتدرائية مار أفرام السرياني بالسليمانية بحلب:

الأحباء الكهنة والشمامسة وأعضاء المجالس الملية واللجان والمؤسسات وعموم أبناء الأبرشية الموقرين

نعمة لكم وسلام من الله أبينا يسوع المسيح إلهنا ومخلصنا.

إنها ليلة الميلاد المجيد، الليلة التي تحققت فيها أولى خطوات الوعد الإلهي بأنَّ نسل المرأة يسحق رأس الحية. الليلة التي تصالحت فيها السماء مع الأرض بميلاد المخلص الذي سيرفع خطيئة العالم. الليلة التي رنمت فيها طغمات الملائكة نشيد الظفر معلنة مد جسر العبور، عبور البشر من الأرض إلى السماء، وعبور النعم والبركات من السماء إلى الأرض.

ولكن الأهم ضمن هذه النعم والبركات التي حصلنا عليها بميلاد رب المجد، معرفتنا الحقة بأن الله يحبنا، كما عبر عن ذلك يوحنا الرسول في رسالته الأولى قائلاً: "بهذه أُظهرت محبة الله فينا: أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به".

محبة الله لخليقته، أيها الأحبة، هي طبيعة الله الحقيقية، لأن الله محبة. 

وقد تجلت هذه المحبة للإنسان منذ البدء بأن هيأ له أفضل الظروف لكي يعيش حياة هانئة وسعيدة، في سلام وخير، مع الآخر، طبيعة كان أو مخلوقات. ولكن سرعان ما ظل الإنسان عن طريق الله ساقطاً في فخ الكبرياء المقيت وخاضعاً لإرادة الشرير ابليس.

ومشت الإنسانية في ظل الخوف والموت زماناً طويلاً، وما كانت تقدم لنفسها إلا مزيداً من السقوط والانحدار، وكأنها تقوم بإفناء نفسها. فأتى الميلاد. ميلاد الكلمة يسوع المسيح. وفي الحقيقة، فإن هذا العمل العظيم هو لائق بدرجة فائقة بصلاح الله. لأنه إذا أسس ملكٌ مدينةً، ثم بسبب إهمال سكانها حاربها اللصوص، فإنه لا يهملها قط، بل ينتقم من اللصوص ويخلّصها لأنها صنعة يديه وهو غير ناظر إلى إهمال سكانها، بل إلى ما يليق به هو ذاته.

هكذا وبالأكثر جداً، فإن كلمة الآب كلي الصلاح، لم يتخلّ عن الجنس البشري الذي خُلق بواسطته، ولم يتركه ينحدر إلى الفناء، بل أبطل الموت الذي حدث نتيجة التعدي، بتقديم جسده الخاص. ثم قوَّم إهمالهم بتعاليمه، وبقوته الخاصة أصلح كل أحوال البشر.   
في هذا يقول القديس أثناسيوس في كتابه تجسد الكلمة: "أنه لم يكن ممكناً أن يُحوِّل الفاسد إلى عدم فساد إلا المخلص نفسه، الذي خلق منذ البدء كل شيء من العدم. ولم يكن ممكناً أن يعيد خلق البشر ليكونوا على صورة الله إلا الذي هو صورة الآب. ولم يكن ممكناً أن يجعل الإنسان المائت غير مائت إلا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها. ولم يكن ممكناً أن يُعلِّم البشر عن الآب ويقضي على عبادة الأوثان إلا الكلمة الذي يضبط الأشياء وهو وحده الابن الوحيد الحقيقي".

لذا أيها الأحبة، ليس لنا نحن الترابيون إلا أن نشكر الرب الإله على افتقاده لبشريتنا الضعيفة بهذا الخلاص العظيم الذي قدمه لنا ونحن لسنا بمستحقين. ولنعمل على أن يكون جوابنا له فعلاً يعكس إدراكاً لدعوتنا ورسالتنا في هذه الحياة. كما أرادنا هو أن نكون: ملحاً للأرض ونوراً للعالم وخميرة للعجين. ليس في شرقنا العزيز فقط. بل في كل أنحاء الأرض. حيث الشهادة لمحبة الله للعالم يحتاجها العالم بأجمعه، كل العالم، ووصيته الأخيرة لنا كانت "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم". فلنكن رسلاً حقيقيين لرسالة المحبة الخالصة والباذلة التي سلمنا وعهدنا إياها نحن المخلصين باسمه القدوس.

في الأسابيع الأخيرة شهدت سورية الحبيبة تغييراً جذرياً في نظامها الذي حكمها لأكثر من خمسين عاماً. هذا التغيير كان أشبه بزلزال بشدة عالية جداً، وكان من الممكن أن نعيش اليوم أياماً وتجارب قاسية على كل المستويات. إلا أن رحمة الله ومحبته لنا خففت بأكبر قدر من أثره المدمر. فكان تغييراً سلساً ولم يتم رصد حالات مؤلمة إلا ما ندر. أما ارتدادات هذه الزلزال فهي التي نعيشها اليوم وننزعج من حصول بعض التعديات أو التجاوزات في غير منطقة من الوطن. ولا أود أن أطلق التوصيفات جزافاً على بعض هذه الممارسات، إلا أننا نقول باختصار بأنها لا تبني الوطن الذي نحلم به. لذا يجب أن نرفضها ونستنكرها بشدة ونعمل على وأدها في مهدها.

لا يجب أن تنتهي فقط هذه التعديات، وإنما يجب على كل واحد فينا أن يتطهر ويتغير. يجب علينا أن نقوم بهذه النقلة النوعية للأمام، رافضين الاستمرار بكل ما اعتدنا القيام به من ممارسات وكل ما كنا نقوم به راضين أو مرغمين، مشاركين بذلك في فساد السلطة والمجتمع.

نعم أيها الأحبة، أمامنا اليوم فرصة ذهبية قد لا تتكرر. والفرص التي تعطى للشعوب ليست بكثيرة. أمامنا فرصة حتى نثبت لأنفسنا قبل الآخرين، بأننا شعب يحب الحياة، وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة. باننا شعب مؤمن، وإيماننا يقودنا إلى فعل الخير والفضيلة. بأننا شعب صابر وقد آن أوان افتقاده ونشله من سقطته.

ولننظر جميعنا للأطفال والشبان، أي بلد نود أن نورثهم، وأي مجتمع نحلم أن يعيشوا به. لنؤسس للأجيال القادمة قاعدة وطنية إيمانية إنسانية، بعيداً عن الاختلافات التي لم ولن تزول، ولكننا نستطيع فعل شيء واحد، ألا تكون هذه الاختلافات سبباً أساسياً لخلافات ونزاعات بين أبناء هذا الوطن.

بلدنا فيه من الفقر والبطالة والجوع والجهل والفساد الشيء الكثير، أكثر مما تتحمله أية دولة في العالم مهما عظمت، وهو موروث قديم جديد، لن نستطيع ولا يجب أن نقبل بالاستمرار فيه. ولذلك نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لفترة من الأمن والسلام والاستقرار، حتى نعالج كل هذه المشاكل وغيرها ونصل إلى واقع أفضل لبلداتنا ومدننا وبشكل عام لوطننا. إنها بحق مسئولية الجميع.

كما أنها مسئولية الجميع الوصول إلى المصالحة الحقيقية بين مكونات هذا الشعب. فما فعله النظام السابق لم يفعله باسم طائفة معينة ولم يحل ظلمه وقمعه على طائفة دون الأخرى. فكلنا عانينا الأمرين وكلنا ضحايا للعهد البائد. ولكننا اليوم ولكي نبني وطننا، لا بد من المصالحة والمسامحة المتبادلة. لا الانتقام أو العدالة الانتقائية. هذا ما علمنا إياه يسوع بقوله لنا:
"يا ابت اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يعملون" 
"لا تقاوموا الشر بالشر" 
"يا رب كم مرة يخطأ إليّ أخي وأغفر له؟ أسبع مرات؟ لا أقول لك سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات" 
"من منكم بلا خطيئة فليكن أوّل من يرميها بحجر" 
"ولكن إن جاع عدوك فأطعمه، وإذا عطش فاسقه، لأنك في عملك هذا تركم على هامته جمرًا متقدًا"

آيات كثيرة تتكلم عن المسامحة والمصالحة، هذا لأنها الطريق الوحيدة التي تقود إلى بناء المجتمعات التي عانت ما عانيناه. وفيها فرصة قوية لكي تقود المخطئ إلى التوبة الحقة. فيرجع عن أعماله الظالمة ويقوم بالتكفير عن أفعاله المشينة بتعويض ضحاياه عما افتعله بهم. لذلك نحن المسيحيون لا نتشفى بالظالمين ولا نطلب الانتقام منهم. بل نصلي من اجلهم حتى يُسكن الرب روحه في عقولهم وأفكارهم فتتقدس أفعالهم ونواياهم.  

هذا وقت الصلاة والتضرع أيها الأحبة. في السابق صلينا كثيراً من أجل حاجات متنوعة. أما اليوم فالصلاة هي من أجل أن يُنقّذ هذا البلد من أيدي أعدائه وأعوانهم. من أجل أن يهيأ الرب الإله لسورية حكاماً صالحين ويخافون الله. من أجل كل من ضحى ويضحي لخير هذا البلد واستقلاله وسيادته على أراضيه. من أجل أن يستطيع الواحد منا أن يقبل الآخر كما هو ويضع الواحد منا يده بيد الآخر لبناء هذا الوطن، الذي يتسع للجميع ويحتاج لجهود الجميع "ولنا هذه الثقة أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا".

أيها الأحبة: نحن ككنيسة سريانية أرثوذكسية نفتخر بأننا من أصل هذه الأرض المباركة. كنا وما زلنا وسنبقى فيها. لغتنا قوميتنا حضارتنا عبادتنا قديسونا، بل وحتى إلهنا المتجسد هم من هذه الأرض. نحن منها وهي منا. فيا سورية القلب والروح. يا معشوقة المغتربين وغرام المقيمين. ويا أرض القداسة والقديسين. لن نبخل عليكي بأي جهد حتى تستعيدي عافيتك وتعودي لتكوني منارة الشرق. برسالتك الأرضية والسماوية. رسالة المحبة والأخوة والسلام بين كل الناس.

وقلناها سابقاً ونكرر، لنا الفخر بأن مطران وراعي هذه الأبرشية هو الحبر الجليل مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، الشخصية الدينية والوطنية، الذي قدم ذاته رخيصة من أجل هذا البلد ومواطنيه. ناطقاً بالحق في زمن غابت فيه الأصوات المنادية بالعدالة والمساواة والتحرر. بخطفه حاولوا اسكات صوته، ولكن بقيت رعيته تنادي باسمه في كل المنابر راجية إطلاق سراحه وتحريره من أسره. واليوم ونحن نذكره من جديد، نصلي من أجله كما فعلنا دائماً كي يعود لنا سالماً ومعه سيادة المطران بولس يازجي والكهنة وكل المخطوفين.    

أخيراً نهلل لصاحب هذا العيد المجيد كما هللت وسبحت الملائكة قائلة: "المجد لله في الأعالى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر". وليحل أمنه وسلامه في المعمورة أجمع وليعيد إلينا راعينا الجليل مار غريغويوس يوحنا إبراهيم سالماً، وليبارك في حياة وخدمة قداسة سيدنا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني، الرجل الجبار والحكيم، الذي أرسله الله لكنيستنا ولوطننا في هذه الظروف الصعبة، نعايده ومن خلاله نعايد كل السادة المطارنة أعضاء المجمع الأنطاكي السرياني المقدس. كما ونعايد الآباء كهنة الأبرشية وأعضاء مجالسها الملية ولجانها ومؤسساتها الخدمية والاجتماعية وشمامستها وكورالاتها وكشافاتها وعموم مؤمنيها.

شملتكم العناية الإلهية بشفاعة أمنا القديسة الطاهرة مريم وجميع قديسيه وكل عام وأنتم خير.
بريخ مولوده دموران

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق وكيل تعليم الفيوم يشهد حفل ختام أنشطة المدارس المشاركة بندوات الوعي الأثري
التالى بعد زلة لسانها.. رسالة تامر أمين إلى شيرين عبد الوهاب: احموها من نفسها