نبيل الحلفاوى على المسرح.. كيف تصنع نجمًا جماهيريًا بالموهبة فقط؟

نبيل الحلفاوى على المسرح.. كيف تصنع نجمًا جماهيريًا بالموهبة فقط؟
نبيل
      الحلفاوى
      على
      المسرح..
      كيف
      تصنع
      نجمًا
      جماهيريًا
      بالموهبة
      فقط؟

 

 

«التمثيل مهنة... النجومية موقع... الفن موهبة».. قليلون هم أصحاب المبادئ، وقليلون جدًا من لا يتنازلون عنها مهما عاندتهم الرياح، خاصة فى زمن يشبه فيه من يحترم نفسه وجمهوره الجوهرة النادرة.

والفنان القدير نبيل الحلفاوى كان تلك الجوهرة النادرة، التى صنعتها سنوات العمل الجاد والجهد الكبير، ما وضعه على قائمة أفضل الفنانين المصريين، قبل رحيله منذ أيام، دون أن يخفت بريق عينيه قط، حتى فى أحلك الظروف، لأنه بريق نابع من روح ووجدان فنان متفرد، ثرى الفكر والموهبة.

 

رفض التعيين معيدًا فى معهد الفنون المسرحية بسبب حبه للتمثيل

 

ولد نبيل محمد الحلفاوى فى الجيزة، وتربى فى أحد أهم أحياء القاهرة الشعبية العريقة، التى يمتاز أهلها بالدفء و«الجدعنة»، وهو حى «السيدة زينب»، ما كان له تأثير كبير على تكوينه الإنسانى.

درس فى كلية التجارة جامعة القاهرة، وحصل منها على بكالوريوس إدارة الأعمال عام ١٩٦٦. لكنه كان يرى لنفسه مسارًا آخر، فتمرد على مخططات الأهل لتصحيح مساره الأول، واتجه نحو هدفه الحقيقى وهو التمثيل.

تخرّج «الحلفاوى» فى المعهد العالى للفنون المسرحية عام ١٩٧٠، وكان ترتيبه الأول على دفعته. لكنه رفض التعيين كمعيد فى المعهد حُبًا فى فن التمثيل وتعلقًا بحلم حياته، المتمثل فى المسرح القومى، ليواجه الأضواء التى جعلت حياته حافلة.

ولم تكن حياة نبيل الحلفاوى حافلة بالأدوار الناجحة فحسب، ولكن بحب الناس وتقديرهم له أينما ذهب، تلك المحبة التى يعتبرها الفنان القدير وسامه الأغلى، لذا لم يتهاون لحظة أو يتنازل مرة عن تقديم الأعمال الجادة، وانتقاء الأدوار الهادفة.

«التمثيل مهنة... النجومية موقع... الفن موهبة».. مقولة تلخص مسيرة الفنان نبيل الحلفاوى، التى تمتد إلى عقود طويلة قضاها فى محراب الفن.

كما تكشف عن علاقة الفنان نبيل الحلفاوى بالمجتمع. فأى إنسان يمكن أن يمتهن مهنة التمثيل، لكن ليس كل ممثل بقادر على التأثير فى الناس وترك بصمة إيجابية.

القليلون هم من تذكرهم صفحات تاريخ الفن، لأن تاريخ الفن لا يحتفظ فى أرشيفه إلا بفئة تمتهن التمثيل متسلحة بالموهبة الحقيقية. هؤلاء الممثلون أصحاب الموهبة يعيدون إنتاج المهنة، ويجعلون المتفرج ينظر إلى مهنة التمثيل بشكل مختلف.

من هنا يحصل الممثل على لقب الفنان من الجمهور، ثم يدرك أن له دورًا اجتماعيًا يتعدى منطق تقمص الشخصية التى يؤديها، وأن دوره الحقيقى هو التعبير عن أفكار المجتمع من خلال أدائه الفنى، وخلق شخصية فنية تجعل المتفرج يعيد النظر فى واقعه وحياته وعالمه، ليكون للفنان دور اجتماعى يمارسه بصورة غير مباشرة، ويتحول إلى وساطة بين المهنة والمجتمع.

إذا نظرنا إلى موقع الفنان نبيل الحلفاوى فى تاريخ مهنة التمثيل المصرى، نلمح فى معظم أدواره أنه يتجاوز تقمص الشخصيات فى مظهرها الخارجى، وأن مهنة التمثيل لديه هى رؤية للعالم تعبر عن شخصيات تكشف عن مجتمعه وأفكاره بصورة غير مباشرة.

لذا يصبح أداء «الحلفاوى» للشخصيات المختلفة غاية فى التعقيد، من منظور أن الشخصية هى تجسيد لعالم معقد، تتضافر مجموعة من العوامل لإظهارها إلى المتفرج على خشبة المسرح، والتى يمكن أن نلخصها فى مستويين:

أولًا: مستوى فكرى منطلق من عالم النص، عبر إدراك الأبعاد الخفية للشخصية، وإبراز تفاصيلها الدقيقة، وكأن أداء الشخصية لديه مقترن بطرح سؤال فكرى حول وضعيتها فى مجتمع النص، وما هو تأثيرها على المتفرج؟

ثانيًا: مستوى جمالى من منطلق أن الشخصية التى يؤديها لها إيقاع خاص، ومتشكلة عبر مجموعة من الدوافع، وتحدد أفعالها منظومة العلاقات فى مجتمع النص، لنصل إلى تناغم الأداء الصوتى مع الأداء الجسدى.

 

أبدع فى عدة أدوار مركبة مثل «درش» و«راضى عبدالسلام» و«عمر مكرم»

 

يمكن أن نلمح امتزاج المستويين سالفى الذكر فى العديد من الأدوار المسرحية التى مثّلها نبيل الحلفاوى، مثل شخصية «درش» فى مسرحية «عجبى»، التى أخرجها المخرج عصام السيد، وترصد أحوال المجتمع بعد ثورة ١٩٥٢، من خلال أشعار الشاعر الكبير صلاح جاهين.

أدى «الحلفاوى» فى هذه المسرحية دور الراوى، أو «درش»، المواطن البسيط، وهى شخصية ابتدعها صلاح جاهين فى رسومه الكاريكاتورية، وفى مجتمع النص تؤدى دور التعليق على الأحداث.

من الناحية الفكرية تتفق هذه الشخصية مع الأفكار الأيديولوجية لنبيل الحلفاوى. لكن من الناحية الفنية هى شخصية بالغة الصعوبة، فليس بها مساحات تمثيل حقيقية، يستعرض من خلالها الممثل قدراته الأدائية والتعبيرية ليصل إلى الجمهور.

لكن «الحلفاوى»، من خلال أدائه الصوتى، وقدرته المعروفة على التلوين الصوتى، ومع تناول العرض للأحداث السياسية، استطاع أن يجذب الجمهور، ويشيد به النقاد، فضلًا عما دل عليه الدور من عشق الفنان الكبير للأدوار الكاشفة عن الشأن العام وتمس وجدان المتلقى.

أما «راضى عبدالسلام»، فى مسرحية «عفريت لكل مواطن»، فهى شخصية معقدة، تذكرنا برواية «دكتور جيكل ومستر هايد» للأديب الإسكتلندى روبرت ستيفنسون، والتى تدور حول صراع الخير والشر داخل الشخصية الإنسانية.

جسد نبيل الحلفاوى هذه الشخصية المُركبة التى تعانى من حالة ازدواج، وكان السؤال: كيف تصل هذه الحالة الدرامية إلى المتفرج وتستثير عقله، فى ظل صعوبة تأدية شخصيتين فى نفس المسرحية ونفس المشهد ونفس اللحظة؟. هنا كانت تكمن صعوبة هذه الشخصية من خلال تكوينين مختلفين، ومواصفات جسمانية مغايرة، ما تطلب منه جهدًا عصبيًا وذهنيًا ليبين الانتقالات المختلفة.

وكتبت الدكتورة نهاد صليحة مقالة خاصة تحلل أداء الفنان نبيل الحلفاوى فى هذه المسرحية فأشادت به، مشيرة إلى أنه استطاع بقدراته التكنيكية تطويع جسده وصوته لأداء الشخصيتين، من خلال قدرات صوتية وجسدية مغايرة.

أما دور «عمر مكرم»، فى مسرحية «رجل فى القلعة»، التى كتبها الكاتب المسرحى محمد أبوالعلا السلامونى، وأخرجها المخرج الراحل سعد أردش فى عام ١٩٨٧، فقد رفضه ممثلان كبيران هما حمدى وعبدالله غيث، ما ألقى على كاهل «الحلفاوى» مسئولية ضخمة فى أداء شخصية رفضها من قبله قامات تمثيلية من ناحية، ومن ناحية أخرى كيف يعطى للشخصية حياة فى مجتمع النص لتعادل قوة الشخصية المقابلة لها دراميًا، وهى شخصية الوالى «محمد على».

من هنا، لجأ نبيل الحلفاوى إلى أداء صوتى بعيد عن الخطابية و«الميلودرامية»، التى قد يستسهل بعض الممثلين اللجوء إليها، خاصة أن شخصية «عمر مكرم» تستوعب منطق هذا الأداء.

وقال «الحلفاوى» إنه دارت نقاشات كثيرة مع أستاذه ومخرج العرض سعد أردش حول طبيعة أدائه هذه الشخصية بشكل يتفق مع وجهة نظر كليهما، ويتفق مع الانطباع المعروف عنها فى كتب التاريخ، وتضفى فى نفس الوقت حيوية على الشخصية المكتوبة فى النص المسرحى.

أما شخصية «المفتى»، فى مسرحية «طقوس الإشارات والتحولات»، فقد كانت أيضًا شخصية مركبة ذات مظهر خارجى قوى، لكنها تحمل بداخلها نوازع وأهواء تجاه «الماسة». وكما تقول الناقدة عبلة الروينى، استطاع «الحلفاوى» أن يجسد الانهيار النفسى والتهدم الجسدى فى أدائها.

 

جمع بين المعايشة والوعى الاجتماعى فى التمثيل.. وحرص على التفاعل مع المجتمع

 

يمكن القول إذن إن نبيل الحلفاوى من الفنانين القلائل أصحاب المنهج التمثيلى فى أداء الأدوار، ليجمع بين منهج «ستانسلافسكى» فى المعايشة، ومنهج «بريخت» فى أن يكون للممثل وعى اجتماعى فى أداء الدور.

مزج بين المنهجين فى سهولة ويسر، وهذا ما تعلمه من أستاذه سعد أردش، ما جعل تجسيده الدور الذى يقدمه أشبه بحالة «ولادة» للشخصية، لكى يخرجها إلى المتفرج من بين أفكاره ومشاعره وأحاسيسه فى تشكيل جمالى، ليؤدى رسالته.

التمثيل بالنسبة لـ«الحلفاوى» قطيعة إنسانية مع شخصية الممثل الحقيقية. وليس معنى القطيعة الفصل الحاد، بل تطويع مكوناته الفكرية والوجدانية للشخصية المؤداة لاستثارة متفرجه وتحريضه على التفكير.

نجومية نبيل الحلفاوى لا يستمدها من موقع خارجى يرتبط بصورة ذهنية يصنعها الفنان عن نفسه، ويحب أن يراها الجمهور، ويستنسخ جميع أدواره من خلالها، بل إن نجومية «الحلفاوى» تصنعها قدراته على تجسيد الأدوار المختلفة، عبر قراءة متأنية لطبيعة الشخصيات، وإخراجها من رحم كتابة المؤلف، ثم إعادة إنتاجها فى أداء متناغم صوتيًا وجسديًا.

فإذا كانت نجومية بعض الفنانين تعتمد على حضورهم العالى، ومستمدة من مواصفات شخصية مثل الوسامة، أو من سمات صورة متخيلة بأنه الفنان «الدونجوان» الذى يخطف قلوب النساء، إلى غير ذلك من الصور، فإن نجومية «الحلفاوى» استمدها من حضوره العالى على خشبة المسرح، وصقلها بالدراسة الأكاديمية التى ساعدته فى تجسيد الأدوار المختلفة، فاقتحم جمهوره اقتحمامًا محببًا، يدخل إلى قلوبهم بهدوء، دون صناعة تروجها له وسائل الإعلام عن مغامرته المختلفة أو مواقفه الدعائية المفتعلة.

سجل «الحلفاوى» اسمه فى تاريخ فن التمثيل بموهبته فقط، دون أن يلجأ إلى وسائل الإعلام لاكتساب شهرة أو اصطناع صورة ذهنية منتحلة، يخطف بها فئات من الجماهير وينال إعجابهم.

لذا انضم إلى قائمة الموهوبين فى تاريخ فن التمثيل، وشكل امتدادًا فنيًا وسلوكيًا لفئة حفرت أسماءها بحروف من ذهب فى التاريخ، مثل الراحل الفنان محمود مرسى، لكن بشخصيته الفنية المستقلة، ليصبح علامة متفردة تخطف قلوب الجماهير المختلفة، ومن الفنانين النادرين الذين تُجمع الجماهير المختلفة على موهبته.

تجسدت نجومية «الحلفاوى» على خشبة المسرح، وامتدت إلى السينما والتليفزيون، فقدم العديد من الأدوار المختلفة التى نالت استحسان الجميع، خاصة أدواره فى مسلسلات «غوايش» و«الزينى بركات» و«رأفت الهجان».

لم يصنع الفنان نبيل الحلفاوى نجوميته من أداء وتقمص دور ما فى مسرحية أو فيلم أو مسلسل، بل اتخذ الفن كنمط حياة، فقدم أدوارًا متعددة فى الحياة مثل المثقف والشاعر، وكان فنانًا منفتحًا على العالم. نظر إلى العالم نظرة فاحصة، جسّدها عبر محاولات شعرية مختلفة.

خطفته هذه المحاولات للحظات، وأبى أن يكون أسير ألمه أو سجن ذاته، فتركها سريعًا وقرر الانفتاح على العالم مرة أخرى، دون أن يتخلى عن جوهر الشعر، من خلال تكثيف رؤيته للعالم، والنفاذ إلى جوهر الأشياء، فى كلمات قليلة تكثف الوضع الراهن، كما كان يفعل عبر موقع التواصل الاجتماعى «تويتر».. وهذه الأدوار الإنسانية المختلفة تفصح عن فنان عاش حياته حريصًا على الاحتفاظ باحترام الجمهور له وللفن الذى يعشقه.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق وزير الإسكان يتفقد سير العمل بمشروعات المدينة التراثية بالعلمين الجديدة
التالى سعر الذهب اليوم 14 ديسمبر 2024 في مصر.. سعر عيار 21 الآن تحديث لحظي