بعد منتصف الليل

بعد منتصف الليل
بعد
      منتصف
      الليل

رأيتُ حمامًا أبيض يطوف حولى.

فى البدء نزلت حمامة واحدة. 

نثرتُ لها بعض الحبوب بيدى. أخذت تلقط الحب بمنقارها الأحمر الجميل، ثم بعد لحظات، نزل حمام أبيض كثير، أخذ يلقط الحب وهو يلف ويدور حول بعضه. وأنا دهشة فى حبور، بحثتُ فى يدى عن مزيد من الحب، لم أجد، قمتُ من مكانى مبتسمة علّى أجد بعض الحبوب على الرف كما تعودت أن أضعها للعصافير التى تأتى مزقزقة عند نافذتى كل صباح فى نشوى، عندما قمتُ من النوم، وأضأت نور الحجرة، وفتحتُ النافذة، رأيتُ الحمامَ يقف أمامى على الشجرة وهو ينفض ريشه الذى يشبه الطباشير الأبيض.

همست له فى شغف: أيها الحمام أقبل، لقد حصلت على بعض الحبوب الشهية، تركتُ النافذة مفتوحة، وعدتُ إلى سريرى ويدى قابضة على بعض الحبوب، ثم ذهبتُ فى نوم عميق على أمل أن يأتى الحمام الوديع ويلقط الحب ثانية.

تكرر هذا المشهد، عندما حكته لى صديقتى وهى تحدثنى عن أنها رأت حمامة بيضاء تطير عاليًا فى سقف حجرتها، وأنها أخذت تنادى عليها.

ومن قبل كان قد حكت لى صديقة أخرى عن مشهد ظل يراودها مذ كانت طفلة فى الثامنة من عمرها، رأت حمامة بيضاء تأتى إليها فى فناء المدرسة وهى تلعب مع البنات «الحجلة»، فتخبرها بأن جدتها قد ماتت، ثم طارت الحمامة وهى تقود سربًا طويلًا من الحمام الأبيض الذى ظل يتابع خطواتها من المدرسة إلى البيت الذى ترقد فيه الجدة، وأن أختها أخبرتها بأن جدتها قد ماتت. وامتلأ البيت بالناس والرجال والنساء والصراخ.

وظلت منكمشة طوال اليوم أمام الصراخ والعويل والنواح.

هل الحمامة البيضاء هى حاملة البشارة؟

فتحتُ عينى ونظرتُ نحو النافذة، لم أجد الحمام، ولكننى وجدت مجموعة من الغربان السوداء تحتل الشجرة، ثم سمعتُ صوت العصافير وهى تزقزق، وتخرج من أعشاشها تبحث عن الحب الذى وضعته لها بالأمس فى الطبق عند النافذة كما تعودت كل يوم.

- الموت - هو الحقيقة التى لا يمكن إنكارها أو تبسيطها.

أن نستسلم له بعد طول عناء، بعد مشقة، فى الكهولة، فى الشباب، لا يهم، هو يأتى، ستظل صورته واضحة تمامًا أمام أعيننا مهما حاولنا المراوغة أو اكتساب الوقت للحظات، لأيام، لأى مدى نريد أن نعيشه.

هل حقًا أنتِ من تقررين متى تموتين؟

لا أظن.

هو يأتى بغتةً، فى سعادة، فى حزن، فى مرض، فى صحة، يأتى وقتما يشاء، تظل تنظرين إلى صورتك فى المرآة صامتة وهناكَ خلف ظهركِ صورة والدتكِ عليها شريط أسود.

والدتكِ وهى شابة فى ريعان شبابها.

أنتِ الآن تشبهينها.

هل سألتِ نفسكِ يومًا: ما خياراتها وانتكاساتها، لحظات ضعفها، قوتها؟

كانت عندما تريد أن تبكى تمسك زجاجة القطرة البلاستيكية الموضوعة على المنضدة بجوارها، وتضغط عليها ضغطة قوية، فتنزل منها نقاط سريعة، ومتتالية، ربما تفرغ الزجاجة كاملة فى لحظة غضب، وتغلق عينيها، وهى ما زالت واضعة رأسها للخلف على الوسادة، والزجاجة فى يدها وتبكى، تبكى فى صمت، تدخل فى حالة من النشيج المتواصل، ولكى لا تسمعيها وتسمعى صرخاتها الداخلية المكتومة من الوجع والألم، كانت تضع زجاجة القطرة على المنضدة، وتمسك بيدها المرتعشة الراديو الصغير، وتدير المؤشر ببطء، فيُحدث ذبذبات متتالية، وتظل وراء الذبذبات حتى تهدأ، فيأتى صوت الغناء مندفعًا خارجًا بصوت مرتفع، وتدّعى كذبًا أنها تغنى مع المغنى الذى ينبعث صوته خارجًا فى قوة، وهى تبكى من داخلها فى نهنهات منخفضة وبصمت وبعنف لا تدركينه، وأنتِ خارجة من الباب تضحك لكِ، فتتركينها وحيدة كى تستمتع بصوت المغنى المفضل لديها، ليكن «عبدالحليم حافظ»، فى أغنية الويل الويل، ولكن الحقيقة غير ذلك!

هىَ غير ذلك تمامًا! 

هىَ لا تريدكِ أن تسمعى صوت صراخها، صراخها الداخلى، ولا أن ترى دموعها المنسابة بغزارة فوق خديها، لأنها الأم المسالمة، الصبورة، المتحملة، الضعيفة، القوية، الشجاعة، الرخوة، المهزومة، الصامتة فى عنف.

وصلنى خبر وفاتها بعد ساعات قليلة من فرح صديقتى سوزان.

كان كوب الشاى الساخن فى يدى، وضعته على المنضدة، وأنا فى حالة دهشة واطمئنان. دهشة فى اختيار الموعد، واطمئنان بأن العروس الجميلة ذهبت إلى بيتها الجديد، البعيد.

فحمدتُ الله مرتين.

مرة للسبب الأول، ومرة للسبب الثانى، وهو انتهاء الفرح بسلام.

أدركتُ لحظتها أننى فقدت أمى وإلى الأبد، لن تفى جميع كلمات الحزن الآن بكل طاقة الألم والحزن بداخلى.

ألقيتُ كوب الشاى الساخن داخل جوفى على دفعاتٍ متسارعة، وارتديتُ ملابسى السوداء، وأخذتُ شنطة كبيرة بداخلها ملابس سوداء كثيرة لزوم الحداد والجنازة.

فكرتُ كثيرًا فى التوقيت الذى اختارته أمى، هل هى من اختارت؟ أم الموت هو الذى أتى هكذا بغتةً؟

رأيتُ صورتها فى شبابها أمام عينى حينما كانت تضحك وأنا صغيرة وتنادينى «يا قطة».

ذهبتُ إلى البيت على الحالة الطفولية التى أنا عليها الآن، ودخلتُ الحجرة كى أراها، وجدتها نائمة مبتسمة على نفس الصورة الجميلة المطبوعة فى عينى، فى شبابها وهى تضحك.

شابة فى الثلاثين من عمرها أو ربما أكبر قليلًا، وقفت الطفلة التى أنا عليها الآن أمام وجهها وقبلتها، وملست بيدها المرتعشة على شعرها الأسود الناعم المسدل على كتفيها، وأنا أسمع صوتها تنادينى مداعبة لى: يا قطة.

أغلقت باب الحجرة على وجهها، على صوتها، وفررتُ هاربة إلى الخارج، أحاول أن أستنشق هواءً طازجًا، وأعيد ترتيب المشاهد التى سوف أستدعيها فيها مجددًا كُلما لاحت لى ذكرياتى القديمة معها.

مقطع من رواية: بعد منتصف الليل 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق الوزراء يوافق على اتفاقية إعداد «خارطة طريق نحو تخفيض انبعاثات الميثان بمصر»
التالى الجلفة.. تسمم شخصين بالغاز