في كتابه الصادر حديثا عن دار ريشة للنشر بعنوان "حكاياتي في دفتر الفن"؛ يروى السيناريست الراحل عاطف بشاي ذكرياته مع عدد كبير من الشخصيات الفنية والثقافية التي جمعته بهم صداقة إنسانية وفنية طوال مسيرته منذ أن تخرج في معهد السينما في عام 1967 حتى رحيله عنا في 30 أغسطس 2024.
ومن أبرز ما جاء في كتابه قصته مع الكاتب الكبير الراحل صلاح عيسي؛ المؤرخ الصحفي الذي عرفناه من مقالاته وكتاباته في التاريخ الصحفي والاجتماعي والتي تحول منها لأعمال درامية مثل كتابة "رجال ريا وسكينة" الذى انتقل إلى شاشة التليفزيون بعدسة المخرج جمال عبد الحميد وحقق نسبة مشاهدات كبيرة.
ويروي عاطف بشاي كيف أنقذ صلاح عيسي فيلم “اللمبي” بطولة محمد سعد من المصادرة أو بالأحرى من منع تسويقه خارج مصر بعد الهجمة النقدية الشرسة التي قادها عدد من نقاد مصر السينمائيين آنذاك.
كيف أنقذ صلاح عيسي فيلم "اللمبي" من المصادرة؟
يقول عاطف بشاي في الفصل الخاص بالمؤرخ الصحفي صلاح عيسي من كتابه، إنه عندما استجار به المخرج الراحل مدكور ثابت عندما كان يشغل منصب رئيس الرقابة على المصنفات الفنية لتكوين مجلس الحكماء برئاسته للفصل في اللغط المثار من عدد من النقاد والمهتمين بالسينما المصرية واعتراضهم على تصدير فيلم "اللمبي" للخارج.. الفيلم كان يمثل وقتها بداية انطلاق ونجاح محمد سعد الجماهيرية، وحقق إيرادات خيالية في دور العرض بالداخل، وكان مبررهم أن الفيلم تافه ومسف متواضع في قيمته الفنية.. ويسئ لسمعة مصر في الخارج.. بل وصفه ناقد شهير وقتها بأنه "لا فيلم" وسط حشد كبير من «الحكماء» عرض علينا الفيلم.. وجاء مكاني إلى جوار صلاح عيسى وكلنا مشحونون مسبقا ضده... فقد مزقه النقاد الذين يجلس بعض منهم إلى جوارنا في صالة العرض ممتعضين تسيطر على ملامحهم تعبيرات السخط والجهامة والقنوط.. وما أن انتهى عرض التيترات وبدأت مشاهدة الفيلم في الاسترسال حتى هممت بالضحك كرد فعل المشهد يحتوي على موقف ساخر لـ«محمد سعد» المخدور الذي يستوقفه أمين شرطة ليلا شاكا في أمره.
وتابع عاطف بشاي: طلب الشرطي من اللمبي إطلاعه على تحقيق الشخصية فيبرز له كارنيه اشتراك متهالك متآكل في «مركز شباب» لا يملك سواه.. وهو مشهد يمثل مقدمة منطقية استهلال بليغ يرسم شخصية درامية تقدم لنا منذ البداية بطاقة تعارف بأبعادها الاجتماعية والنفسية فاقدة لهويتها بائسة وكلمات مضغومة غير مترابطة.. ينهي الزمن الضنين في سحرية وضائعة.. إنه صعلوك متشرد يثاثًا ويفافًا ويتهته بنصف لسان تفجر الضحك والأسى فى نفس الوقت.. كتمت ضحكتي خوفا من أن أنهم بالسذاجة والسطحية من جموع المشاهدين العامتين... ونظرت بطرف عيني إلى «صلاح عيسى، ففوجئت باتساع ابتسامته المعجبة والتي تحولت مع المشهد التالي إلى ضحكة عالية مسترسلة.. بادرته مستدرجا يبدو أن الفيلم يعجبك.. قال: من الواضح أنه فيلم ينتمي إلى نوعية الكوميديا السوداء.. قلت: ولكن لم تفلت من واحد من الأفاضل الجالسين معنا ولو نصف ضحكة عابرة.. قال: دعك من الذين يتعالون على الضحك بادعاء جدية زائفة ووقار مفتعل واحتشام مصطنع لا يستشعر المفارقة القاسية لبائس كـ «شارلي» يبحث عن معنى وجوده في زمن شحيح.. واضح أن الفيلم يجسد ملامح شخصية مدهشة تمثل نمطا بشريا تعكس من خلاله أبعاد حياة اجتماعية لبسيط عشوائي يسعى أن يجد له مكانا وسط أمثاله التعساء.. فيقوم بتعرية قبح واقعي طبقي مهترئ غليظ القلب والمشاعر يلفظه ويستبعده ويحتقره ويضن عليه بالأمن والحماية ولقمة العيش.
واستطرد عاطف بشاي؛ قائلًا: "في الاجتماع الذي ضمنا بعد العرض استطاع صلاح عيسى بمنطقه الساحر.. ورؤيته الرحبة أن يقنع الجميع بالإفراج عن أسر الفيلم في العلب.. المبهر والمدهش والجميل حقا أن المناضل اليساري الكبير والحكاء العظيم لم يكن متحذلقا جهما رغم الأشواك والجراح والتباريح والأوجاع وملحة الدمع بل فكها يملك ناصية الأضاحيك الساخرة العميقة الغور والدلالة.. ورغم القضبان السوداء والحبس الانفرادي وحزن السنين وتشنج المتحذلقين وتشدد الرفاق المذهبيين يحمل قلبا شفافًا مرهفا وصوتا شجيًا متفرد الألحان... يعلو فوق التحزب البغيض.. بسيط ومليح وسلسل وفكه وطريف.. كبيرًا بغير تكبر.. متواضعا من غير تكلف أو ادعاء.. رقيقا من غير ترخص أو ضعف.. طاووس مشاغب من غير ترفع أو تجريح.. ستظل يا أمير الحكي» و«نديم الحي» «الساطع الموهبة».. البازع التوهج رغم الغياب.. المشرق الوجود رغم العتمة.. ستظل حاضرًا في الزمن... أيضًا في الذاكرة".