بينما انشغل السوريون بالاحتفال بطي صفحة نظام آل الأسد، الذي جثم على صدورهم لأكثر من نصف قرن أذاقهم خلاله شتى أنواع العذاب، وفيما كان أبو محمد الجولاني الذي عدل اسمه ل «أحمد الشرع» متجهًا إلى المسجد الأموي في دمشق لإلقاء خطبة النصر وسط تكبيرات رجاله من الأنصار والمهاجرين، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متهلل الأسارير مبتهجًا بهذا «الحدث التاريخي»، الذي سيتيح لبلاده «فرصًا جديدة» في الشرق الأوسط.
نتنياهو، الذي كان يقف على مرتفعات الجولان المحتل يراقب مع وزير دفاعه ورئيس أركان جيشه الأوضاع في الجانب السوري، أعلن أنه أمر قواته باحتلال المنطقة الحدودية العازلة ومواقع السيطرة القريبة منها، وهو ما حدث إذ سيطر جيش الإحتلال الصهيوني على نحو 235 كيلو مترًا مربعًا في العمق السوري، أي ما يعادل حوالي 60% من مساحة قطاع غزة.
رئيس وزراء الإحتلال الذي تفاخر بأن جيشه سيطر على المنطقة العازلة «دون أي مقاومة تُذكر، ودون إطلاق رصاصة واحدة»، أمر قواته في اليوم نفسه بقصف عدد من المواقع الإستراتيجية بالعمق السوري شملت مطارات عسكرية ومصانع ومختبرات تطوير أسلحة وذخائر، ومستودعات صواريخ باليستية ومقرات أجهزة أمنية وعسكرية.
ما حققته دولة الإحتلال الإسرائيلي على مدار 3 أيام في سوريا فشلت في تحقيقه على مدار 50 عامًا، فقد احتلت كامل أراضي الجولان بما فيها «جبل الشيخ» الموجود عليه قوات حفظ سلام دولية، وهو يعد أكبر كارثة حدثت خلال الـ 50 عامًا الماضية.
ولمن لا يعلم.. «جبل الشيخ» منطقة مرتفعة؛ كاشف جميع مناطق الجمهورية العربية السورية الموجودة في الوادي، وهو مفتاح سوريا، كما إنه الأرض الحاكمة، ويقال عليه عسكريًا «إنه ركبت سوريا»، كما أن دولة الإحتلال الإسرائيلي احتلت 25 كيلو مترًا داخل الأراضي السورية، وهو احتلال كامل لأنه لا يوجد هناك جيش سوري حاليًا.
المخزي هي تصريحات أحمد الشرع، الملقب بأبو محمد الجولاني، حول احتلال إسرائيل للأراضي السورية وتدمير كافة مقدرات الجيش السوري بأكبر عملية جوية قامت بها قوات الإحتلال الصهيوني بحسب ما أذاعته قناة الجزيرة القطرية، «أن دخول الجيش الإسرائيلي إلى الأراضي السورية يتم بالتنسيق معنا!!».
الجيش السوري كان مصنف «الجيش الستين» عالميًا، و «السابع عربيًا»، الكارثة الكبرى أنه في التصنيف الجديد للجيش السوري في ترتيب الجيوش العالمية قد يحتل المرتبة الأخيرة لأنه لا يمتلك أي معدات أو أسلحة يدافع بها عن نفسه، بعد أن دمرتها قوات الإحتلال الإسرائيلية.
الجيش الصهيوني دمر كل الدفاعات الجوية السورية ولم يعد هناك رادار واحد يعمل، ودمر 500 طائرة مقاتلة سورية بجميع أنواعها، كما دمر منظومة صواريخ إس 300 المتطورة التي حصلت عليها سوريا من روسيا مؤخرًا، وتم تدمير جميع الدبابات السورية إلى جانب المدرعات والبالغ عددها 2700 دبابة، حيث كانت تحتل المرتبة الثامنة عالميًا في عدد الدبابات.
الطيران الإسرائيلي شن أكثر من 450 طلعة جوية، وكان يضرب بأريحية في الأسلحة السورية من غواصات ودبابات وسفن وكاسحات ألغام وكلها أسلحة حديثة متطورة، ما يعني شل القوات البحرية السورية ما يجعلها حتى تعجز عن مواجهة تجار المخدرات.
المفارقة أن نتنياهو الذي برر ضربه للعمق السوري بالخشية من «وقوع الأسلحة المتطورة في أيدي ميليشيات مسلحة وإرهابيين»، تحدثت وسائل إعلام بلاده عن «هيئة تحرير الشام» بشكل مخالف، فالتنظيم الذي يتزعمه «رجل منفتح (أحمد الشرع) تغيرت مواقفه وبات يؤيد الإسلام المعتدل»، وعد بإقامة علاقات سلام عميقة مع إسرائيل!.
وتحدث خبراء عبر شاشات عبرية عن العلاقات الوثيقة بين إسرائيل والمجموعات المسلحة التي سيطرت على الأمور في سوريا منذ 2013، وأفادوا بأن تركيا تعهدت بألَّا توجه هيئة تحرير الشام سلاحها لدولة الإحتلال، وهو ما جرى، فعندما اقترب الجيش الإسرائيلي من دمشق وعبر السياج الحدودي واحتلوا الأراضي السورية اكتفى مقاتلوا هيئة تحرير الشام «بجهادهم» ضد فلول الجيش السوري، وتركوا الجيش الإسرائيلي لمهمته في احتلال المدن والأراضي السورية وتدمير مقدرات الجيش السوري.
ذهبت سَكرة الانتصار وحلت فكرة السيطرة على الحكم، ودارت علامات الاستفهام حول مستقبل سوريا وشعبها ومحيطها الإقليمي في ظل سيطرة مجموعات تم دعمها وتدريبها وتسليحها وتمويلها من أطراف إقليمية ودولية، لكل واحد منها أهداف ستسعى تلك الفصائل المسلحة لتحقيقه إيفاء لما عليها من ديون، وكلف الجولاني، محمد البشير، برئاسة الحكومة السورية، التي لُقبت فيما بعد بالمؤقتة.
الكارثة الحقيقة والطامة الكبرى أن القوى الإقليمية والدولية التي رسمت المشهد الأخير لم تضع الشعب السوري ولا مستقبله على أجندة حساباتها ولو مرة، بل كان كل همها حسم صراعاتها وعقد صفقاتها وتقسيم خرائط نفوذها، مستخدمة الملعب السوري.
في الحلقة الأخيرة من هذا الصراع الدولي الإقليمي الذي تجري وقائعه على الأراضي السورية، تلقى المحور الإيراني «الذي كان النظام السوري إحدى أهم حلقاته المركزية» على حد تعبير نتنياهو، ضربة كبيرة، ولفت الصهيوني إلى أن «ضربات إسرائيل لإيران وحزب الله تسببت في تبعات بأنحاء الشرق الأوسط من جانب الذين يريدون التحرر من نظام القمع والاستبداد هذا».
ما ذهب إليه نتنياهو في معرض كلامه، أكده السيناتور الأمريكي الجمهوري ليندسي جراهام، فسقوط نظام الأسد «القاتل» في سوريا يخدم مصلحة دولة إسرائيل على الرغم من المخاطر الكامنة، وبتعبير آخر فغياب سوريا يدفع إلى تفكيك محور المقاومة بأكمله، حسبما نقلت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية عن مسؤول غربي.
التداعي السريع لنظام الأسد الذي حكم سوريا بالحديد والنار لنحو نصف قرن، لم يكن من فعل الشعب السوري الذي خرج قبل 13 عامًا إلى الشوراع والميادين للمطالبة بإقامة دولة مدنية ديمقراطية، ولا بفعل تكتيكات مجموعات المعارضة التي قرر بعضها حمل السلاح حمايةً لنفسها من قمع النظام، ولا حتى بفعل التنظيمات الجهادية السلفية التي استغلت حالة الفراغ والفوضى وتمددت في الشمال السوري، بل تجاوز كل ذلك، ففشل إسرائيل في تحقيق أهدافها في ميادين القتال، سواء في غزة أو جنوب لبنان بعد أكثر من عام، دفع رعاتها إلى وضع خطة تمنحها ما أرادت دون تعريضها مجددًا لاختبار الحرب.
وما تسرب في الإعلام الأمريكي والعبري خلال يوم سقوط الأسد، كشف عن توافق أمريكي تركي مبكر على دعم مجموعات المعارضة المسلحة التي تمكنت في أقل من أسبوعين من اجتياح مناطق شمال سوريا، إثر انهيار الجيش السوري الذي تُرك وحيدًا في تلك المعركة بعدما فقد الدعم الروسي الإيراني، فانسحب من أمامها وترك سلاحه وعتاده خلفه، ما «مهد الطريق لوصول تلك المجموعات إلى دمشق دون مشاكل تذكر»، كما تمنى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الكلمة التي ألقاها عقب صلاة الجمعة قبل الماضية.
والسؤال: إذا كان نظام الأسد قد سقط وحزب الله أوقف إطلاق الصواريخ، وإذا كانت الإمدادات الإيرانية توقفت، فلماذا تستمر الهجمات الإسرائيلية على سوريا؟ قولًا واحدًا: هي تريد القضاء على أي قدرات سورية عسكرية مستقبلًا، وهذا للأسف ما فعلته في الأيام الماضية، هذا هو الهدف الجوهري؛ أي ضمان وجود سوريا منزوعة السلاح وضعيفة، بما لا يشكل أي خطورة على إسرائيل، كما أنها تفضل سوريا المقسمة وليست الموحدة، والمؤكد أنها ستسعى بكل الطرق لضمان تنفيذ ذلك، فهل سيستيقظ السوريون إلى ذلك وينتبهوا مبكرًا قبل فوات الأوان؟.. حفظ الله مصر وسوريا وجميع الدول العربية.