على مدى أكثر من عشرين عامًا، لم أحضر ندوة لعمل أدبى تقدمه كاتبة، إلا وتطوع «ذكر» من الحضور بتكرار واحدة من العبارات السخيفة عن الكتابة النسوية والكتابة النسائية.. دون فهم للفرق بين المصطلحين، ويتلقف الكورال الإشارة فتتصاعد الهمهمة المتواطئة عن ضرورة أن يتسع أفق الكاتبة، وأن تنضج فكريًا، وأن تتجاوز الكتابة عن مشاكل وهموم المرأة وظلم المجتمع للمرأة، وأن تركز على موضوعات أكثر إنسانية، وأن تتحلى بالموضوعية وعمق الرؤية الفنية فتهتم بالقضايا الإنسانية العامة.. وكأن المرأة ليست من الإنسانية.
وهذه الحلية الزخرفية والنغمة اللازمة لأى ندوة أو مناقشة لكاتبة، لا تحدث فى أى مناقشة لكاتب.. فلا يوجه سؤال لكاتب من نوعية: كيف تناول صورة الرجل فى أعماله؟ لماذا كل شخوصه الرئيسية من الرجال؟ لماذا ينحاز إلى الرجال أكثر من الحيوانات والجمادات؟ إلى آخر هذا السخف الذى تواجهه الكاتبة عند مناقشة أعمالها.
فما يقدمه الكاتب «الذكر» من موضوعات وقضايا هى الموضوعات الطبيعية، ورؤية الكاتب «الذكر» هى الرؤية الكونية، وما عداها فهى محض ترهات ومحاولات لا ترتقى لمستوى الكتابة.. بمنطق أن الكتابة دون توصيف هى ما يخطه الكاتب الذكر.
صحيح أن بعض النقاد يبدو متعاطفًا مع ما تقدمه الكاتبات من أعمال، لكن هذه النغمة لم تختف أبدًا، وزاد عليها، ما سمعته فى مناقشة رواية «يوم آخر للقتل» للكاتبة: هناء متولى، فى ندوة الثلاثاء الماضى بمنتدى المستقبل للفكر والإبداع الذى يديره الدكتور يسرى عبدالله، فطرح كاتب من الحضور سؤالين:
- متى تكف الكاتبات عن الكتابة عن المرأة المظلومة والمضطهدة؟
- أليس فيما كتبه توفيق الحكيم فى «يوميات نائب فى الأرياف»، ويوسف إدريس فى «الحرام» ما فيه الكفاية للتعبير عن المرأة المظلومة والمضطهدة؟
وقد أثار طرح السؤالين للوهلة الأولى حنقى.. لكن لأن الأسئلة قد تكون أحيانًا أهم من الإجابة، بما تعكسه من البنية الذهنية للسائل وللسياق الذى تتم فيه صياغة السؤال وطرحه، فقد وجدت أن هذا السؤال يتماشى تمامًا مع ما أثارته الرواية محل النقاش «يوم آخر للقتل» من أفكار حول مفهومى التحديث والحداثة فى الريف المصرى.
وكيف أن الريف المصرى فى الرواية يمتلك كل مقومات التحديث ويستعمل كل منتجات التحديث من آلات، موبايلات، منصات تواصل اجتماعى، لكنه يفتقد الحداثة.. التى هى طريقة رؤيتنا لأنفسنا وعلاقتنا بالآخر والعالم المحيط بنا، بما تشتمل من ترسيخ لقيم العدل، المساواة، التسامح، إعلاء التفكير العقلى والابتعاد عن الخرافة.
ولكننى أغفلت أن المجتمع المصرى كله فى مجموعه لم يعرف الحداثة بعد، ربما من باب التمنى والأمل والتطلع لأن تكون الجماعة الأدبية هى طليعة الحداثة فى مجتمعنا، لكنّ هذين السؤالين يؤكدان أن جماعتنا الأدبية تعرف التحديث، فتقيم الندوات والمناقشات الأدبية، وتقبل بأن تجلس على منصة المناقشة كاتبة أو ناقدة، وتطرح تساؤلات تخص الأنواع الأدبية وحرية التفكير والتعبير.. لكنها تقوم بذلك فى إطار مرجعية ذكورية لا ترى العالم إلا من منظورها، وكل ما فى الأمر أن التحديث شذبها فجعلها مرجعية أبوية لطيفة، حانية، متفهمة، لكنها تبقى أبدًا سلطة حاكمة تستطيع أن تمنح وتمنع، وتحدد المعايير التى لا خروج عليها. وهذه المرجعية الذكورية هى أيضًا مرجعية أصولية ماضوية، ترى فيما قدمه الرواد من الأدباء الخير والكمال، ولا جديد يمكن أن يضاف لما قدمه الأولون، وهى بهذا لا تختلف كثيرًا عن الأصولية الدينية التى ترى فى القرون الماضية خير القرون، وأن الزمان فى انحدار، بالتالى فما فائدة الكتابة عما كتبه السابقون؟
وكأننا لم نعرف أن الحداثة لم تتحقق للعالم المتقدم إلا بتغيير أشكال التعبير، وخلق أشكال جديدة تلائم روح العصر.
أما إجابة السؤالين، فأبشر كل التحديثيين بأنه كما لم يتم التوقف عن الكتابة عن الاضطهاد الرومانى للمسيحيين، أو صلب السيد المسيح، أو التفرقة العنصرية فى أمريكا، أو اضطهاد اليهود فى أوروبا، أو اضطهاد المسلمين فى إسبانيا الكاثوليكية.. إلخ، فإن الكتابة عن معاناة واضطهاد النساء تاريخيًا وآنيًا لن تتوقف، لأنها جزء من التاريخ الإنسانى، قد يخفت قليلًا إذا نال مجتمعنا نصيبه من الحداثة وتخلخلت المركزية الذكورية، وحتى يحدث هذا ستظل الكاتبات يقدمن عالم النساء بكل رهافته وهشاشته وقوته وضجره، ويحاولن تمزيق الطوق الحريرى الملفوف حول حناجرهن كما تفعل نساء قرية ميت الديبة فى رواية هناء متولى «يوم آخر للقتل»:
«تنساب نساء القرية من أسرَّتهن كالماء فى لحظةٍ واحدة، يصعدن إلى أسطح المنازل، بعد أن ارتدين ثيابًا سوداء، حاسرات الرءوس، يصعدن إلى الأعلى، حيث لا حجاب بينهن وبين السماء، يستنشقن هواءً لم يختلط بعد بأنفاس الرجال، يخرجنه زفيرًا غاضبًا، يمزِّقن جلابيبهن حتى تصير صدورهن حرة دون خوف، ويبدأن فى الصراخ والعويل اللذين ينهشان القلوب، ويفزعان كل الموجودات، الطيور والحيوانات تهجر أعشاشها ومضاجعها الدافئة وتشاركهن صراخًا لا يفتر حتى طلوع الفجر، بينما الرجال يغطون فى نومٍ ثقيلٍ حتى الصباح».