الأنباء التي تفيد بأن الولايات المتحدة تدرس رفع اسم "هيئة تحرير الشام" (النصرة سابقًا) من قائمة المنظمات الإرهابية تثير تساؤلات عميقة حول المعايير التي تتبعها واشنطن في تصنيف الجماعات الإرهابية، ومدى جدية التزامها بمكافحة الإرهاب.
"هيئة تحرير الشام" بين الماضي والحاضر
"هيئة تحرير الشام" نشأت كفرع لتنظيم "القاعدة" تحت اسم "جبهة النصرة"، وقد تورطت في العديد من الجرائم الإرهابية والانتهاكات بحق المدنيين السوريين، مما جعلها تُدرج على قوائم الإرهاب الدولية. ورغم محاولة الهيئة في السنوات الأخيرة إعادة صياغة خطابها السياسي وتقديم نفسها كقوة معارضة "معتدلة"، إلا أن جوهرها كجماعة متطرفة لم يتغير.
محاولة تقديمها كشريك في العملية السياسية السورية تعد تناقضًا واضحًا مع التصنيف السابق لها، ويثير التساؤل حول نوايا الولايات المتحدة ومدى استعدادها لتجاوز جرائم الجماعة لأسباب سياسية أو استراتيجية.
مفارقة "المعارضة المسلحة"
لا يمكن الحديث عن "معارضة مسلحة" حقيقية في سوريا، خاصة في ظل سيطرة الجماعات الإرهابية على المشهد العسكري للمعارضة. منذ بداية الأزمة السورية، كانت الفصائل المسلحة مدفوعة بخطابات دينية متطرفة ومرتبطة بشبكات إقليمية ودولية تموّلها وتدعمها.
"هيئة تحرير الشام" ليست استثناءً؛ بل هي جزء من شبكة الإرهاب التي تستغل الفوضى لتحقيق أجنداتها الخاصة. رفع اسمها من قائمة الإرهاب يعطيها شرعية غير مستحقة، ويُظهر تسامحًا مع جرائمها السابقة.
الولايات المتحدة والسياسة المزدوجة
إعلان المسؤول الأمريكي بأن التعامل مع "هيئة تحرير الشام" سيكون مسترشدًا بالمصالح الأمريكية يعكس سياسة واشنطن البراغماتية، التي تضع المصالح فوق المبادئ. الولايات المتحدة التي تقود حملة عالمية لمكافحة الإرهاب تبدو في هذا الموقف مستعدة للتغاضي عن ماضي جماعة إرهابية إذا كانت تحقق مصالحها في مواجهة النظام السوري أو القوى المنافسة في المنطقة.
هذا النهج ليس جديدًا؛ فقد سبق لواشنطن أن تعاونت مع جماعات مسلحة في أفغانستان والعراق لتحقيق أهدافها، لينتهي الأمر بتفاقم الأزمات التي جاءت تلك التدخلات لمعالجتها.
رسائل غير مطمئنة
نقل رسائل إلى المعارضة المسلحة عبر تركيا تؤكد عدم التعاون مع "داعش" يظهر أن الولايات المتحدة تحاول رسم خطوط حمراء "أخلاقية"، لكنها في الوقت ذاته تعطي ضوءًا أخضر للتعامل مع جماعات أخرى ليست أقل خطورة.
هذه الرسائل تنقل إشارة سلبية مفادها أن الولايات المتحدة قد تغض الطرف عن جماعات إرهابية إذا كانت تخدم أهدافًا معينة. هذا النهج يهدد بتعزيز الجماعات المتطرفة وإضعاف الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب.
عواقب وخيمة| تعزيز الجماعات الإرهابية الأخرى
رفع اسم "هيئة تحرير الشام" من قائمة الإرهاب يحمل رسالة خطيرة إلى الجماعات الإرهابية الأخرى بأن المجتمع الدولي مستعد لتجاوز ماضيها إذا توافقت مع مصالحه السياسية. هذا القرار قد يشجع تلك الجماعات على تغيير استراتيجياتها وتجميل صورتها إعلاميًا دون التخلي فعليًا عن أيديولوجياتها أو أساليبها العنيفة، على أمل تحقيق اعتراف دولي مماثل. مثل هذه الرسائل تُعد بمثابة دعم غير مباشر للإرهاب، حيث تُظهر أن الالتزام بقيم حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب يمكن تجاوزه إذا كانت هناك مكاسب سياسية أو استراتيجية.
تقويض جهود مكافحة الإرهاب
القرار يُضعف مصداقية التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب ويعطي انطباعًا بازدواجية المعايير. كيف يمكن تفسير هذا التوجه للدول التي تحارب الإرهاب في مناطق أخرى، مثل إفريقيا أو الشرق الأوسط؟ عندما يرى المجتمع الدولي أن قوة متطرفة كانت جزءًا من شبكة "القاعدة" يمكن أن تحصل على الشرعية، فإن ذلك يخلق فجوة في الثقة ويعقد التعاون بين الدول في مكافحة الإرهاب. هذه الازدواجية تُظهر أن الحرب على الإرهاب ليست مبنية على مبادئ ثابتة، بل على المصالح السياسية، مما يُضعف الدعم الشعبي والدولي لهذه الجهود.
تفاقم الوضع السوري
على المستوى المحلي، إشراك "هيئة تحرير الشام" في العملية السياسية السورية لن يؤدي إلى الاستقرار، بل سيزيد من تعقيد الأزمة ويعمق الانقسامات. الجماعة، التي تحمل تاريخًا طويلًا من العنف والتطرف، ستُواجه برفض شعبي وسياسي من أطراف سورية ودولية أخرى، مما يعرقل أي محاولات للوصول إلى تسوية شاملة. علاوة على ذلك، منح الشرعية لجماعة متطرفة كهذه قد يدفع فصائل معارضة أخرى إلى التشدد كوسيلة لفرض نفسها على الساحة السياسية، مما يؤدي إلى تصعيد العنف وتأخير أي مسار نحو السلام.
خلاصة
الحديث عن رفع اسم "هيئة تحرير الشام" من قائمة الإرهاب يُظهر تناقضًا خطيرًا في المواقف الدولية تجاه الإرهاب. جماعة مثل "هيئة تحرير الشام" لا يمكن أن تُعامل كشريك سياسي، بل يجب أن تواجه بالمحاسبة على جرائمها.
على الولايات المتحدة، والمجتمع الدولي ككل، أن يتعاملوا بحذر مع مثل هذه القرارات، لأن شرعنة جماعات متطرفة تحت أي ذريعة يعرض الأمن والسلم الدوليين للخطر. إن مكافحة الإرهاب يجب أن تكون مبدأً ثابتًا وغير قابل للمساومة، بغض النظر عن الحسابات السياسية أو الاستراتيجية.