تحدثت النجمة سامية جمال في حوار أجري معها على صفحات مجلة الكواكب عن عذابها في البيت الذي تربت فيه وعن سر القرش الذي خبأته من والدها لتركب به الاتوبيس وتدور به في القاهرة وتستكشف هذا العالم.
تقول سامية:" ذات يوم احتشدت حولي أسباب اليأس من الحياة، إذ كانت قسوة زوجة أبي قد زادت على كل حد، واشتط أهل البيت جميعًا في سوء معاملتي فاندفعت إلى البكاء بسيل من الدموع لا ينقطع، وبينما أنا غارقة في هذه الدموع، قفز إلى رأسي سؤال صبياني في أساه ما يضحك، وفى اضحاكه ما يؤسى، رحت أسأل نفسي: من أين تجيء عيناي بكل هذه الدموع، وأنا لا أشرب كثيرًا؟ إنها أكثر مما أشرب في أسبوع كامل؟، ونهضت متثاقلة كسيرة القلب، إلى النافذة، أسأل الله رحمة بي، وأتوسل إليه أن يرد إلى النعمة التي كانت سبيلى إلى شيء من العزاء.. الموسيقى لتعينني على احتمال جفوة هذا العيش.
سامية جمال
وواصلت:" وفجأة أحسست بالموسيقى تملأ الغرفة!. ولكنها ليست موسيقى من ذلك اللون الهادئ الذي كان يبعث القشوة إلى نفسي بل إنها ألوان متنافرة من الموسيقى الصاخبة، كأنما تعزفها أيدى الشياطين، عملا أشباحها غرفتي، كأنما السماء قد استجابت لدعوتي فى غضب من كثرة إلحاحي، وأقول الحق إنى فزعت لهذه الأنغام العالية الصاخبة، وتراجعت إلى الوراء في خوف ووجل، ثم حاولت أن أتحرك، ولكن الخوف استولى على مشاعري فجمدت في مكاني كالمفلوجة، لا أملك لنفسي حراكًا! وكما بدأت هذه الموسيقى المزعجة فجأة، توقفت فجأة، وإذا بي أسمع تصفيقًا حادًا وضجة كبرى قادمة من «الحارة» التي نسكنها وأطلت برأسي استطلع الأمر، فعرفت الحقيقة، لقد اشترى صاحب المقهى البلدي الذى في حارتنا جهاز «راديو» واحتشد وأهل الحتة، لتحية القادم الجديد، الراديو، والاستمتاع بأنغامه، وجاءوا من كل حدب وصوب يباركونه ويهنئون المعلم صاحب وعندئذ شعرت بالطمأنينة، إذ عرفت مصدر الصوت، وأدركت أنني لن أحرم من الموسيقى بعد اليوم، وإني لم أعد بحاجة إلى الاعتماد على راديو الجيران، وإن هذا الراديو لن يسكت أبدًا، ولن ينقطع صوته على من الصباح الباكر إلى آخر الليل.
فراشة السينما
وأكملت: "وأقول في هذه المناسبة، إني أقرأ في الصحف منذ أيام، أن الحكومة تتشدد في تنفيذ الأمر الذى صدر أخيرًا بمنع أجهزة الراديو في المقاهي والمحال العامة، نظرًا لما تحدثه من ضوضاء وإقلاق لراحة الناس في بيوتهم، اقرأ هذه الأنباء واحمد الله على أن هذا الأمر لم يصدر في تلك الأيام، أيام طفولتي، وإلا لحرمني من المتعة الوحيدة التي طالما أزاحت على كابوس الحرمان الذى أطبق على أنفاسي إذ أنا طفلة بائسة، سرقت قرشا، ورأيت الحياة لست أدرى هل كان أبي يحبني أم لا ؟ من المحتمل أنه كان يحبني، ولكني لم أشعر في يوم من الأيام بمظهر من مظاهر هذا الحب.
وتابعت: "لا أذكر أنه ابتسم في وجهي مرة واحدة، ولا أنه ناداني باسمي يومًا، فما كان يناديني إلا بقوله "يابت"، وكنت أسمع من أحاديث الناس أن هناك حياة أخرى، غير الحياة التي أشاهدها من باب بيتنا المتواضع، في الحارة كنت أسمع أن هناك أناسًا منعمين وقصورًا ومتاجر كبيرة، ودورًا للمسارح والسينما واللهو وسيارات وأولاد ذوات وأشياء كثيرة كانت تبدو لى ضربًا من الأحلام المستحيلة وكانوا يقولون إن هذه الحياة الخارجية، هذه الأحلام، هذه الجنة، لا يدخلها إلا من يملكون في أيديهم المال، الذي يعتبر بمثابة جواز مرور من الحارة إلى خارج الحارة الى الفردوس الذي يعيش فيه السعداء والموعودون، وكان من اختصاصي أن أقف إلى جوار أبي كل صباح، أعينه على ارتداء ملابسه وذات يوم، إذ هو يلبس، سقط من جيب قرش، وتدحرج إلى أن بلغ مكانًا ما في أسفل بعض أثاث الغرفة.
قرش صاغ
وتستطرد: "لمحت الفرش وهو يتدحرج، وعرفت خط سيره، وأين استقر، واجتمع أهل البيت يبحثون عن القرش، فقد كانت له قيمته في ذلك الوقت، وفى ذلك البيت، وجهدوا ما جهدوا على غير طائل، وتظاهرت أنا بالبحث معهم عما يبحثون عنه، دون أن أرشدهم بالبحث معهم إلى موضع الفرش العزيز، وانفضوا على يأس، وغادروا الغرفة، وتسللت أنا إلى موضع القرش فأخرجته من مكمنه، وتكتمته، ثم ذهبت إلى بقال في الحارة، فصارحته برغبتي في أن أرى القاهرة كلها.. وسألته ما السبيل، فضحك الرجل طويلا، ثم نصحني بأن أركب الترام رقم ١٥.
وتختتم: "واستجبت لنصيحته، وركبت الترام رقم ١٥، الذي راح يطوف بي بين العتبة الخضراء يزحامها المشهور، وشارع فؤاد متاجره الفاخرة، والزمالك بقصورها الشاهقة، والعجوزة إلى جوار النيل الضاحك، ورأيت الناس والسيارات والحدائق ومتعة الحياة، وتذكرت أمى، وكيف كانت تحبب إلينا القناعة، بقولها انه ليس في الدنيا شيء أكثر مما في حارتنا، وليس في البيوت الأخرى شيء ليس في بيتنا، لقد كان البؤس حبيبًا إلينا في ظل حنانها.