من «على هامش السيرة» إلى «الفتنة الكبرى».. طه حسين يعيد تشكيل الوعي بالمرويات التاريخية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في أوضح بيان عملي، وضع الدكتور طه حسين منهجه في التعامل مع المرويات التاريخية، في كتابيه الشهيرين «على هامش السيرة» و«الفتنة الكبرى»، تعرض في الكتاب الأول «على هامش السيرة» إلى المرويات التاريخية الضعيفة أو المشكوك في صحتها لكنها في الوقت نفسه غنية بالمعارف والخيال، ومُعينة على الإلهام والكتابة، لذا تعامل معها بوصفها ذخيرة ومجالا خصبا للذوق وإلهاما للخيال والفن وإشباعا للوجدان، لكنها ليست مادة للتاريخ ومعرفة الحقائق التاريخية.

وفي الكتاب الثاني «الفتنة الكبرى» تعامل مع المرويات التاريخية بروح العلم، وبروح النقد، وبروح التجرد، في محاولة للبحث عن الحقيقة، وقراءة الأحداث التاريخية بعيدا عن التعصب والانحيازات المسبقة. 

تظهر الطريقتان المتبعتان في الكتابين، من خلال المقارنة، مدى ذكاء وعبقرية العميد، الذي اتجه لاستثمار القصص والمرويات التي راج تداولها قبل البعثة النبوية، والمعاصرة لها، من ناحية خيالية أدبية، بهدف إثراء الثقافة العربية بالمزيد من القصص التي تكشف عن بعض جوانب الحياة العربية، تثري في الوقت نفسه الجمهور بمعارف كثيرة عن الحياة العربية القديمة، بينما اتجه في كتابه الثاني لإبراز المقدرة العلمية والروح النقدية في تتبع المرويات التاريخية ومقارنتها ببعضها البعض، مع محاولة إظهار أي الأحداث هي الأقرب لأن تكون حقائق مؤكدة.

عارض بعض المثقفين البارزين الطريقة الأولى في كتابه "على هامش السيرة"، ومن هؤلاء المفكر الكبير محمد حسين هيكل، الذي رأى في كتابات العميد، التي نشرت مسلسلة في المجالات آنذاك، اتجاهًا للتعاطي مع الأسطورة والخرافات والتعامل معها كأنها حقائق، لذا قرر كتابة السيرة النبوية في كتابه "حياة محمد" بطريقة علمية حديثة تبتعد عن المرويات الضعيفة والقصص الخرافية والأساطير.

ومع ذلك كان العميد مدركًا لخطورة ما يقوم به، وخطورة أن تتم إساءة فهم طريقته المتبعة في كتابه "على هامش السيرة"، قائلا: "أعلم أن قومًا سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدَثون يُكْبِرون العقل".

397672fa2a.jpg
انتبه طه حسين لفاعلية الأسطورة والخيال في تدريب ذائقة الجمهور على قيم جمالية منها الاستراحة بهذه القصص أمام عناء الحياة ومشاقها

مواجهة عناء الحياة ومشاقها

انتبه طه حسين لفاعلية الأسطورة والخيال في تدريب ذائقة الجمهور على قيم جمالية منها الاستراحة بهذه القصص أمام عناء الحياة ومشاقها، فهي مجال لالتماس الراحة والترفيه، من هذه القصص ما وقع تداوله بين العرب قبل بعثة النبي الكريم، سجل هذه القصص في كتابه "على هامش السيرة"، وهو يرى أن ما أورده في كتابه وإن كان به بعض روايات لم تصح فإنه التزم بها لأنها كانت متداولة، ولها وقع وتأثير في نفوس الناس، فهى تعطي طاقات من المتعة والخيال واللذة العقلية والوجدانية المطلوبة.

ومثلما نظر لجانب من المرويات التاريخية لها وقع طريف ومحبب للقارئ العربي، ونبَّه على ضعف موقعها التاريخي، فإنه عارض التيار الداعي إلى إبطال عادة الموالد الشعبية التي تحتوي على مجالس تجري فيها قراءة المؤلفات التي تحتوي على قصص خيالية عن مولد النبي.
نقلا عن كتاب "المدائح النبوية في الأدب العربي" لزكي مبارك، فإن العميد، في أول أغسطس من العام ١٩٣٤، كتب مقالة يفسر فيها حياة الموالد في الجماهير الشعبية، وهو يراها تثير العاطفة وترضي الذوق، ويرى من الأصلح ألا يحرم الناس من خيال لا يخالف الدين، ولا يفسد على الناس أمرا من أمور الإيمان، وقال: "أي بأس على المسلمين في أن تتحدث إليهم قصص بهذه الأحاديث الحلوة العِذَاب فتنبئهم بأن أمم الطير والوحش كانت تختصم بعد مولد النبي، كلها يريد أن يكفله ولكنها رُدَّت عن هذا؛ لأن القضاء سبق بأن رضاع النبي سيكون إلى حليمة السعدية؟ وأيُّ بأس على المسلمين في أن يسمعوا أن الجن والإنس والحيوان والنجوم تباشرت بمولد النبي، وأن الشجر أَوْرق لمولده، وأن الروض ازدهى لمَقْدِمه، وأن السماء دنت من الأرض حين مسَّ الأرضَ جسمُهُ الكريم؟ لم تصحَّ الأحاديث بشيء من هذا ولكنَّ الناس يحبون أن يسمعوا هذا، ويرون في التحدُّث به والاستماع إليه تمجيدًا للنبي الكريم لا بأس به ولا جُناح فيه".

وهكذا، فإن طه حسين وضع فروقا كبيرة بين القصص الخيالية التي تثير بعض القيم الجمالية والخلقية مثل الشجاعة والتسامح والحب والرحمة، لكنها تخرج من قصص خيالية وأسطورية وليست حقيقية، مع إدراكه التام أنها قصص غير حقيقية، وبين المرويات التاريخية التي تحتاج إلى تمحيص وفحص بروح علمية ونقدية متجردة، والفارق بينهما هو المجال الذي تنتمي له القصص والمرويات تلك، هو يقبلها دون التفكير في موقفها من الصحة والضعف إذا كانت في مجال الفن والأدب، أما إذا كانت في مجال علم التاريخ فلابد هنا أن يتساءل عن حقيقة ما ينقله.

3a94e5ce1d.jpg
الفتنة الكبرى ج1 (عثمان)

على هامش السيرة

كان طه حسين واعيا بدوره المختلف الذي يمارسه في كتاب "على هامش السيرة"، وفيه ذكر خلال مقدمته أن "هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين؛ لأني لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ، وإنما هي صورة عَرضت لي أثناء قراءتي للسيرة فأثبتُّها مسرعًا، ثم لم أرَ بنشرها بأسًا"؛ فهي في نظره مجرد خواطر وأفكار راودته أثناء القراءة لكنه لا يستهدف العلم ولا يستهدف التاريخ، وإنما يستهدف اللذة والمتعة.

وعن كتابه أوضح العميد قائلا: "في أدبنا العربي على قوته الخاصة، وما يكفل للناس من لذة ومتاع، قدرة على الوحي، وقدرة على الإلهام. فأحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم لم تُكتب مرةً واحدة، ولم تُحفظ في صورة بعينها، وإنما قصها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف".

وعن أهداف الكتاب وعلاقة هذه القصص بالأدباء الشباب، ذكر العميد قائلا: "وإذا استطاع هذا الكتاب أن يدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأولى، واتخاذها موضوعًا قيمًا خصبًا لا للإنتاج العلمي في التاريخ والأدب الوصفي وحدهما، بل كذلك للإنتاج في الأدب الإنشائي الخالص، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد".

وحول وجهة نظر البعض الذين يعلون من قيمة العقل أمام القصص الخيالية، قال طه حسين: "هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة".

70e891b357.jpg
الفتنة الكبرى ج2 علي وبنوه

حديث للحق وحده 

أما منهجه العقلي، وطريقته في مناقشة الوقائع التاريخية والأحداث والشك فيها ومقارنتها بوقائع أخرى لاستخلاص نتائج أقرب للحقيقة، تحدث العميد عن كتابه "الفتنة الكبرى" قائلا: "هذا حديث أريد أن أُخْلِصَهُ للحقِّ ما وسعني إخلاصه للحقِّ وحده، وأن أتحرَّى فيه الصواب ما استطعتُ إلى تحرِّي الصوابِ سبيلًا، وأن أَحْمِلَ نفسي فيه على الإنصاف لا أَحِيدُ عنه ولا أُمَالئ فيه حزبًا من أحزاب المسلمين على حزب، ولا أُشايع فيه فريقًا من الذين اختصموا في قضية عثمان دون فريق؛ فلستُ عثمانيَّ الهوى، ولستُ شيعةً لعلِيٍّ، ولستُ أفكر في هذه القضية كما كان يفكر فيها الذين عاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وَجَنَوْا معه أو بعده نتائجها".

فالروح هنا مختلفة، لأنه حديث من أجل الحقيقة، وليست قصصًا خيالية للمتعة واللذة ومواجهة عناء الحياة، فهو بحسب ما يقوله: "وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرِّد نفسَه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها".

e2f96c75b5.jpg
على هامش السيرة/ حياة محمد

العميد وراء كتاب "حياة محمد"

ربما لم يفهم البعض طريقة الدكتور طه حسين من كتابه "على هامش السيرة" الذي عالج مرويات البعثة النبوية غير الموثوقة بهدف الاستفادة منها بطريقة أدبية وفنية ووجدانية، ورأى أنها ترديد للقصص التي تخالف العقل والمنطق، وخطوة للوراء، وضرب للنقد وللروح العلمية، من هؤلاء المفكر الكبير والسياسي البارز محمد حسين هيكل الذي اتجه لوضع كتاب في السيرة النبوية يعتمد طريقة البحث الغربية الحديثة لتخليص السيرة من القصص الخرافية والأسطورية، وبهدف استجلاء الوجه النقي للسيرة النبوية الكريمة.

وعن طريقته، قال "هيكل": "لعلِّي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث في العربية على الطريقة العلمية الحديثة، وأن ما بذلت في هذه السبيل من مجهود لا يُخرج هذا الكتاب عن أنه بداءة البحث من ناحية علمية إسلامية في هذا الموضوع الجليل".

ورأى هيكل أن كتابه "حياة محمد" هو محاولة لوضع كتاب في السيرة النبوية على الطريقة الحديثة في البحث والاستقصاء، فإنه أيضا أراد الرد على المطاعن التي وجهها بعض المستشرقين، ما أنه أراد الرد على جمود المسلمين في عرض تاريخهم وتراثهم الروحي.

فذكر هيكل: "أتاحت لي ظروف حياتي العملية أن أرى ذلك كله في مختلف بلاد الشرق الإسلامي، بل في البلاد الإسلامية كلها، وأن أتبين ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية في هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأي وحرية البحث ابتغاء الحقيقة. وقد شعرت بأن عليَّ واجبًا أقوم به في هذا الموضوع لإفساد الغاية التي ترمي هذه الخطة إليها، والتي تضر الإنسانية كلها ولا يقف ضررها عند الإسلام والشرق. وأي أذى يصيب الإنسانية أكبر من العقم والجمود يصيبان نصفها الأكبر والأعرق في الحضارة على حِقَب التاريخ؟! ولذلك فكرت في هذا وأطلت التفكير، وهداني تفكيري آخر الأمر إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية".

264.webp
الشيخ مصطفى المراغي

وطرح هيكل كتابه ليكون طليعة بهدف البناء عليه، ومتابعة نفس النهج العلمي، قائلا: "لعل هذه الطلائع تتواتر وتقوى دلالتها إذا انجلت أمام العلم تلك المسائل الروحية بالتخصص لدراسة حياة محمد النبي وتعاليمه وعصره والثورة الروحية التي انتشرت في العالم أثرًا من آثاره. وإذا أتاحت الدراسة العلمية والدراسة الذاتية لقوى الإنسانية الكمينة مزيدًا من اتصال بني الإنسان بحقيقة الكون العليا، كان ذلك الحجر الأول في أساس الحضارة الجديدة. وهذا الكتاب ليس إلا محاولة بدائية في هذه السبيل كما قدَّمت. وبحسبي أن يُقنع هذا الكتاب الناس بما فيه، وأن يُقنع العلماء والباحثين بضرورة الانقطاع والتخصص لبلوغ الغاية من بحث موضوعه. ولو أنه أثمر أيًّا من هذين الأثرين أو كليهما، لكان ذلك أكبر جزاء أرجو عن المجهود الذي بذلت فيه. والله يجزي المحسنين".

وهكذا، فإن الطريقة التي وضع بها طه حسين كتابه "على هامش السيرة" وتركيزه الشديد على التفريق بين مجال الأدب والفن من ناحية ومجال العلم والتاريخ من ناحية، ويوضح وعيه الشديد بالفروق الحاسمة كتابه "الفتنة الكبرى" الذي قصد من خلاله العلم والتاريخ بصورة واضحة، وطريقته في "على هامش السيرة" كانت قد دفعت هيكل لوضع كتاب "حياة محمد" الذي كتب مقدمته شيخ الأزهر الراحل الشيخ مصطفى المراغي.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق "العمل": دورات تدريب مجانية لخريجي كليات آداب جغرافيا على مهنة "مساح عام"
التالى بعد زلة لسانها.. رسالة تامر أمين إلى شيرين عبد الوهاب: احموها من نفسها