عندما تم تكليف عميد التنوير د. طه حسين بتدريس مادة "الحضارة اليونانية" لطلاب الآداب بالجامعة المصرية، لم يرُقه ما يُقدم فى هذه "المادة"، فتصدى – كعادته - مجددًا. فقام بجمع عدة نصوص من الأدب اليوناني، ومنها فى قالب شعرى مسرحى لعديد من أعلامه (يوربيدس، سوفوكليس وغيرهم) وزودها بشروحٍ، صنفها فى كتابٍ بعنوان "صحف مختارة من الشعر التمثيلى عند اليونان"، فقامت الدنيا ولم تقعد، كالعادة، وكأنها امتداد لمعركة "الشعر الجاهلي".
وجاءت مقدمة الكتاب فى صورة رد قاسٍ على من سخطوا على انتهاجه هذا النهج مع طلابه بكلية الآداب، فى سبيله إلى حثهم على البحث والتجديد، بالتأكيد للتنوير. فكانت هذه المقدمة فى سمتٍ هجومي، صور فى طياته قصور تعليمنا ومعارفنا عن الدراية أولًا بأنفسنا ! ويقصد هنا معرفتنا بعصر الفراعنة ومنجزاته الحقيقية، التى سَرَت عبر التاريخ متشحة بغلالات الأغارقة فكرا وفنًا وفلسفة، ثم بعد ذلك للرومان.
ويقارن أثناء هذا العرض بالقصور فى تدريس ما يخص الفتح الإسلامى من خلال مؤرخين عرب فقط، مما يجعل هذه الدراسات فى حاجة دائمة إلى تحقيق. ولعل أكثر ما أثار ثائرة عميد التنوير هو نبرة اللوم والتشنيع التى أشاعها "كبار" حثوا الطلاب على مقاطعة هذا الدرس، فجاءت عبارته قاسية، نحو "أوَلَيس من المخجل أن توفِد أوروبا وفودَها إلى مصر لدرس الآثار، حتى إذا عادت هذه الوفود جلست مجالس الأساتذة فى المدارس الأوربية، وجلس المصريون منهم مجالس الطلب والاستفادة" !
وبدت دهشته جلية فى التأكيد على أنه لا ينتقد درس التاريخ الإسلامي، بل إنه يؤكد على أهمية درسه من خلال فهم التاريخ اليونانى بفلسفاته وفنونه –وعزز ذلك بأمثلة- لما لها من دورٍ مؤسِس فى حضارة العالم، ومنه البلاد الاسلامية للدفع بها إلى الأمام فى كافة المجالات.
ثم يوجه اللوم لمن تعلقوا باللغة العربية فقط وأقدموا على التصدى لتدريس نصوص تمثيلية إغريقية، فيقول محذرا، ولعله ساخرا "وأما الذين لم يحسنوا إلا العربية، فقد أقدم بعضهم مجازفًا ونكل بعضهم معذورًا، فإن اللغة العربية مع الأسف معدمة كل الإعدام فى هذه المادة - يقصد نصوصًا تمثيلية إغريقية- وليس يُتاح لمن لم يعرف لغة أوروبية أن يُشفى نفسه من تاريخ اليونان الرومان".
والمقدمة وحدها هى درس فى السمو بالعقل والطموح الأصيل للأخذ بأسباب التنوير التى كرس لها عميد آدابنا، رائد التنوير فى ثقافتنا د. طه حسين.