الأحد 01/ديسمبر/2024 - 01:45 م 12/1/2024 1:45:43 PM
يكاد الناظر للمناصب السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، أن يسترجع سيرة ومسيرة القادة السوفييت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، من عند ليونيد بريجنيف، وصولًا إلى ميخائيل جورباتشوف.. في كتابه المُعنون (حكم العواجيز) Old Age Rule، يصف لنا الرئيس الروسي السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الحالي، ديمتري ميدفيديف، حال الاتحاد السوفييتي في ظل سكرتارية الدولة الطاعنة في السن، والتي تعاني من الأمراض الجُسمانية مرة، والذهنية والنفسية مرات أخرى.
كان بريجنيف في السبعينيات يقترب من الثمانينيات، يعاني من الوزن الزائد، وأمراض عدة لم يكشف عنها باعتبارها من أسرار الدولة.. أما قسطنطين تشيرنينكو، الذي حل سكرتيرًا للحزب الشيوعي بعد وفاة السكرتير السابق الطاعن في السن بدوره، يوري أندروبوف، رجل الاستخبارات الروسية KGB العتيد، فلم يطل به المُقام سوى عام واحد في منصبه، من 1984 إلى 1985، وقد كان يُعاني من الربو المُزمن.. ومن قبله يوري أندروبوف، الذي شغل المنصب من 1983 إلى 1984، وكعهد سابقيه، كان مصابًا بسرطان في الكُلى، ورحل سريعًا.. كان زعماء الحزب الشيوعي في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، قد تقدموا في العمر، إلى درجة أن ميدفيديف يصفهم بقوله (كانوا جميعًا عجائز، لدرجة أنهم كانوا يتعثرون ويسقطون أثناء المشي، ومهمتنا كانت ألا ندعهم يسقطون ويتدحرجون من فوق الدرج).
تبدو الكلمات الأخيرة، رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر، لحال الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، الذي يسقط من فوق دراجته الرياضية مرة، ويتعثر فوق سلم الطائرة مرات كثيرة، ناهيك عن حالته الذهنية، ونسيانه للأسماء والأشخاص، للوقائع والأحداث، مما جعل منه أضحوكة، سيما في أعين مواطنيه من الحزب الجمهوري وقادته.. أما التساؤل الذي يطرحه المفكرون والمؤرخون في الوقت الحاضر فهو: هل سيكون مصير الولايات المتحدة من جراء شيخوخة رؤسائها، مشابهًا بصورة أو بأخرى، لما حدث مع الاتحاد السوفييتي خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم؟.
خلال كلمة له في سبتمبر 2021، وفي ظل تصاعد أزمة الغواصات الأسترالية، التي تغير اتجاه شرائها من فرنسا إلى أمريكا، لم يتمكن الرئيس بايدن من تذكُّر اسم رئيس وزراء أستراليا، سكوت موريسون.. في اليوم التالي خرجت صحيفة (التايمز) البريطانية متساءلة: هل لو كان لدى الأمريكيين رئيس أصغر في العمر، لكان ارتكب الخطأ نفسه؟.. والمثير أن الرئيس الأسبق، دونالد ترامب، نفسه، حدثت معه أخطاء مماثلة حين كان في مدينة موسيني، بولاية ويسكونسن، لحضور اجتماع شعبي حاشد.. والأمر نفسه عرفته أمريكا في زمن رونالد ريجان، حين استقبل الأميرة ديانا مرحبًا بها باعتبارها الأمير (ديفيد)، ولم يكد الرجل يخرج من البيت الأبيض، إلا وأُعلِن عن إصابته بمرض الإلزهايمر.. ولو كان بايدن قد استكمل ترشحه لولاية رئاسية ثانية، فإنه يكون لو نجح، في عمر الثانية والثمانين، وحال شاءت الأقدار أن يُكمل مُدته الثانية، لكان سيرحل عن البيت الأبيض في عمر السادسة والثمانين، مُسجلًا رقمًا قياسيًا، متجاوزًا رونالد ريجان، الذي رحل في عمر السابعة والسبعين.. وترمب من جهته، ليس أفضل حالًا، ذلك أنه فاز بدورة رئاسية جديدة للولايات المتحدة، وسيرحل عن البيت الأبيض في عمر الثانية والثمانين.
وبالنظر إلى بقية أركان القيادات الأمريكية الحزبية اليوم، الفاعلة تحت قبة الكونجرس، نواب وشيوخ، سيجد الباحث أسماءً وأعمارًا مثيرة للدهشة، وكأن الرحم السياسي الأمريكي، قد عقُم بالفعل عن تقديم وجوه ورموز جديدة.. فعلى سبيل المثال، ميتش ماكونيل، أطول زعيم جمهوري خدم في مجلس الشيوخ، وزعيم الأغلبية سابقًا، يبلغ من العمر اليوم إثنين وثمانين سنة.. أما تشاك شومر، زعيم الأغلبية الديمقراطية في المجلس نفسه، فيبلغ نحو ثلاثة وسبعين سنة، فيما يصل عمر السيناتور بيرني ساندرز، الذي يحمل لواء اليسار الأمريكي، نحو إثنين وثمانين عامًا.. وبالنظر إلى حال مجلس النواب الأمريكي، وحظوظ المسئولين الديمقراطيين فيه، سوف نجد ثلاثة من الأكبر سنًا بين المسئولين، نانسي بيلوسي، زعيمة الأغلبية في المجلس السابق قبل انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر الماضي، ثلاثة وثمانين سنة، ومثلها ستيني هوير، ومثلهما جيم كليبيرن.
في قراءة للأكاديمي العربي الأصل الأمريكي الجنسية، الدكتور مُنذر سليمان، نجد أن قضية تقدم السياسيين في العمر مسألة تُقلق علماء الاجتماع، الذين أعربوا عن خشيتهم من قُدرة الفرد على التحكم في زمام الأمور بعد بلوغه عتبة السبعين عامًا.. فالدراسات المتوافرة تشير إلى تراجع قدرة (رؤساء الشركات) على استيعاب القدر الهائل من المعلومات طرديًا مع تقدم العمر.. بالنظر إلى رؤساء الولايات المتحدة منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، وبعد استقالة نيكسون، سنجد أن حظوظ الرئاسة تميل إلى كبار السن، كما الحال مع جيرالد فورد، ثم جيمي كارتر، مرورًا برونالد ريجان، وبوش الأب، وصولًا إلى ترامب، ثم بايدن، ثم ترامب مرة ثانية.. الأمر الذي يطرح تساؤلًا مُعمَّقًا: هل يُفضل الأمريكيون الشيوخ على الشباب في مقعد الرئاسة؟.
الجواب المثير نجده عبر تحقيق مطول لمجلة Atlantic الأمريكية الشهيرة، تم نشره في يونيو 2020، وفيه أن فكرة مرشحي الرئاسة الأمريكيين كبار في السن لهذه الدرجة، أمر سببه، أن الشعب الأمريكي عمومًا مُسِن.. التقرير نقسه يقطع بأنه، غالبًا ما يتوجه الناخبون الذين تزيد أعمارهم على الخامسة والستين عامًا إلى صناديق الاقتراع، أكثر من الناخبين الشباب، فيما وجدت أبحاث العلوم السياسية، أن الناخبين يفضلون عادة المرشحين (الأقرب لهم من حيث العمر).. ربما يكون السر متعلقًا بالشباب الأمريكي، الذي فقد الثقة في مؤسسات الدولة الأمريكية وأحزابها، وهو ما توقفت عنده صحيفة The Economist البريطانية أخيرًا، معتبرة أن عدد الأمريكيين كبار السن تجاوز عدد الأمريكيين الأصغر سنًا، بهامش أكبر منه في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
على أن أمرًا آخر يمكن أن يُضاف في سلسلة تبريرات اختيار رؤساء متقدمين في السن، وهو عامل الخبرة السياسية، سيما بعد أن استفاق الأمريكيون على كوارث حلت بمكانة الولايات المتحدة عالميًا، مرة في ولايتي بوش الابن، الذي قاد البلاد إلى حربين كارثيتين مدمرتين للأوضاع الاقتصادية وللسمعة العالمية الأمريكية، حرب أفغانستان وحرب العراق، هذا من جهة.. ومن جهة ثانية، فإن سياسات باراك أوباما، التي عُرِفت باستراتيجية (القيادة من خلف الكواليس)، عطفًا على دعمه الواضح والفاضح لحركات الأصوليين، ومساندته جماعات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط.. هذه جميعها اختصمت من رصيد القيادات الأمريكية الشابة في الوصول إلى البيت الأبيض، والبقاء في مقعد الرئاسة لسنوات طويلة.. فهل يعني ذلك، أن كبار السن مُنزَّهون عن الأخطاء، وقادرون على استشراف مُقبل الأيام الأمريكية، بصورة أكثر وضوحًا من شباب السياسيين الأمريكيين؟.
يُمكن أن نُعد قصة شيخوخة رؤساء أمريكا، ضمن مُسببات الصراع المجتمعي الأمريكي المتزايد، سيما أن حكم كبار السن، سيؤدي قطعًا إلى تركيز السلطة في يد الأغنياء، وجماعات المصالح من الأغنياء بنوع خاص، على حساب الأقل حظًا من البسطاء.. وإضافة لما تقدم، لا يبدو أن حظوظ رؤساء كبار السن، ستكون طيبة في مواجهة تحديات العقود المقبلة من القرن الحادي والعشرين، تلك التي تختلف بشكل جذري عما جرت به المقادير، منذ زمن الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة.. خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر، عصر الرقمنة وتقاطعه وتشارعه مع العملية التعليمية والإعلامية والمعرفية، وكيف تُدار معارك الفكر في ظل أجيال جديدة، تبدو معطياتها مغايرة لما جرى من قبل.. أضف إلى ذلك، فإن أهم معركة للأمريكيين، ولغيرهم من شعوب العالم، هي معركة البشر مع التغيرات الإيكولوجية ـ وهي فرع من فروع علم الأحياء الذي يدرس التفاعلات بين الكائنات الحية وبيئتها الفيزيائية الحيوية، والتي تشمل كلًا من الكائنات الحية والمكونات ـ وهذه تتطلب نهجًا عملياتيًا لن تتقنه دولة المسئولين الأمريكين كبار السن، بل يتطلب رؤى ومرئيات عصرية، لا يقبض عليها بقوة، سوى تيارات شبابية قادرة على استنقاذ الكرة الأرضية.
ويتساءل الأمريكيون اليوم، كيف أن الطيارين الذين يقودون طائرات تجارية عملاقة، تحمل بضع مئات من المسافرين، يخضعون لتقييمات عقلية وذهنية فائقة الصعوبة، من جراء ائتمانهم على المسافرين معهم، ويُحدَّد لهم عمر افتراضي، لا يُسمح بعده بقيادتهم الطائرات.. وعليه مَنْ يسمح لشخص متجاوز في السن، أن يقود سفينة البلاد الأمريكية، بمن عليها من غير محددات عمرية؟.. لتأتي الخلاصة، بأن أمريكا تقف في مواجهة أحد أخطر التحديات، والقضية غير قاصرة على عُمر الرؤساء، إنها ليست شيخوختهم، بل شيخوخة الإمبراطورية، والاختبار الصعب الذي تمر به، وجوابها عليه، يرهن مستقبلها في الحال والاستقبال دفعة واحدة.
●●●
قبل أكثر من عام، كتب الأستاذ عبد الحليم قنديل، أن ما يحدث في أمريكا عرض لمرض، وليس اختناقًا عابرًا.. فنحن بصدد بلد امبراطوري، تشيخ مؤسساته الظاهرة للعيان، وتعجز باطراد عن التصحيح وصنع البدائل، وتجديد شباب السياسة الأمريكية.. فقد يُقال لك، وهو صحيح، إن عزل كيفين مكارثي، رئيس مجلس النواب يحدث لأول مرة في التاريخ الأمريكي، وقد صارت عبارة (لأول مرة) عنوانًا على الحوادث الأمريكية الأحدث.. فقبل نحو ثلاثة أعوام، جرى اقتحام مبنى الكونجرس The Capitolلأول مرة في السادس من يناير 2021، وكان المقتحمون من أنصار الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الذي أصر ولا يزال، على أن انتخاب الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، كان مزورًا، وقيل وقتها، إن الديمقراطية الأمريكية قادرة على حماية نفسها.. وجرت محاكمات وصدرت أحكام بالسجن المُغلظ، لم تنجح في وقف الأقوال بتزوير الانتخابات وسرقة الأصوات، بل صار ترامب، رغم عشرات الاتهامات والقضايا والمحاكم المتورط فيها، الشخصية الأشهر والأكثر شعبية اليوم في الداخل الأمريكي، وكسب الرئاسة الأمريكية مُجددًا في نوفمبر الماضي، بينما كان العجوز بايدن يريد فترة رئاسة ثانية، قد ينهيها إن طال به العمر، وهو في سن يفوق الخامسة والثمانين، ولكي تكتمل به صورة بلد شاخ دوره، ورئيس مُوغِل في الشيخوخة.. كانت أمريكا تفتخر بأنها بلد مؤسسات راسخة، واليوم تضعُف المؤسسات، وتضطرب طرق عملها، وتترك وراءها فجوات، لا يملؤها سوى قبض الريح، وسوى شخصيات شاخت على كراسيها.. انتهى.
ولعل الحديث عن حكم الشيخوخة في الداخل الأمريكي، بات متجاوزًا لمنصب الرئاسة، وبقية المقاعد السياسية المتقدمة، إلى الامبراطورية الأمريكية نفسها.. إذ يرتبط حديث التقدم الديموجرافي جذريًا، بالنفوذ الدولي لأي دولة، والقدرة التنافسية مع الآخرين، والوضع الاقتصادي الريادي أو التدهور، وجميعها عوامل تجعل من سؤال العمر في دولة قُطبية عظمى، أمرًا مهمًا وحيويًا، بات يُزعج الأمريكيين، سيما بعد أن كانت الولايات المتحدة في عقد التسعينيات، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قد حازت ميزة الخصوبة، مقارنة بالدول النظيرة في العالم الغني، غير أن هذه الميزة بدأت في التلاشي منذ الأزمة المالية البنكية الأمريكية عام 2008.
مع بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، بدت مشكلة الشيخوخة تؤرق العالم، حيث فاق عدد الذين تجاوزوا الستين من عمرهم، نحو سبعمائة مليون نسمة، هذا الرقم مرشح للوصول إلى ملياري نسمة بحلول عام 2050، أي خلال أقل من ثلاثين عامًا من اليوم، مما يجعل عدد المسنين أكثر من عدد الأطفال لأول مرة في تاريخ البشرية، مما ينبئ بأن العالم يتجه نحو الشيخوخة.. وتطرح ظاهرة (الكهولة) نفسها، كأحد أهم التحديات التي تواجه الحكومات في القرن الحادي والعشرين، في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء.. فهل يمكننا إرجاع تقدم عُمر السكان إلى توافر الرعاية الطبية، وجودة الحياة، والقدرة على مواجهة الأوبئة والأمراض المتوطنة، بل والقضاء عليها؟.. يمكن بالفعل أن يكون كل هذا صحيحًا، غير أن هناك أمرًا آخر لابد أن يؤخذ في الحسبان، وهو تناقص النمو السكاني، وتراجع معدلات الزيادة الديموجرافية في كثير من بقاع العالم، من أوروبا إلى أمريكا، وهو أمر بدأ ينسحب اليوم على الصين، كما تفيد أحدث القراءات الواردة من هناك.
ونأتي إلى السؤال التالي: هل كانت علامات الشيخوخة بادية على أمريكا، قبل منافسة بايدن وترامب، وتقدم أعمار رجالات الكونجرس وما نحو ذلك؟.
الشاهد أن ذلك كذلك، والدليل، التقرير المعنون (المسنون الأمريكيون في 2008) American seniors in 2008، أي قبل عقد ونصف من الزمن، وقد أعده باحثون لصالح حكومة الولايات المتحدة، الذي تنبأ بتضاعف عدد المسنين الأمريكيين الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة في عام 2030، إلى 71.5 مليون نسمة.. في أواخر ديسمبر 2021، كانت الولايات المتحدة، تشهد تراجع النمو السكاني، إلى 1.%، وهي أقل نسبة نمو سكاني، منذ تأسيس الولايات المتحدة بشكلها الحالي، والعهدة هنا على صحيفة (نيويورك تايمز).. والحقيقة أن تباطؤ النمو السكاني في الداخل الأمريكي، سابق لانتشار الوباء الفتاك الأخير، كوفيد ـ 19، وهذا ما تؤكده، كريستي وايلدر، الديموجرافية بقسم السكان في مكتب الإحصاء، إذ قالت (إن النمو السكاني الأمريكي يتباطأ منذ سنوات، فيما نسبة الشيخوخة تتقدم في البلاد).. أما البروفيسور كينيث جونسون، وهو خبير ديموجرافي في جامعة نيوهامبشير، فيقطع بأن النمو السكاني الأمريكي، سيظل منخفضًا، لأن شيخوخة السكان من المحتمل أن تُزيد معدلات الوفيات، ولأن الاستقرار في المواليد يبدو مستمرًا.
هناك لا شك جزئية سوسيولوجية في هذا الحديث، ترتبط بمناخات الحرية المُنفلتة، وتفضيل الشباب الحياة الحرة، من غير التزام الزواج والإنجاب، وهي ظاهرة تعرفها أوروبا أكثر من أمريكا، مما يجعل الوضع الديموجرافي الأمريكي غير مُبشر.. ولعل التساؤل الواجب طرحه: لماذا يخشى كثير من الثقات الأمريكيين، تراجع معدلات النمو السكاني في بلادهم؟.. عند الكاتب الأمريكي، هال براندز، في Bloomberg، أنه على رغم أن أمريكا تحصر تركيزها في الإنفاق العسكري وإجمالي الناتج الداخلي، باعتبارهما مؤشرين على وضع أمريكا في مواجهة الصين وروسيا، تظل الحقيقة أن الصورة الديموجرافية العامة للولايات المتحدة هي الأهم، ذلك أنه ما دامت البلاد قادرة على إنجاب أبناء، وهم أصل قوتها، ستظل قادرة على لعب الدور المنوط بها عالميًا.. براندز يقطع بأن وجود معدل سكان مُتنامٍ، نسبة كبيرة منهم تنتمي إلى سن العمل، أمر يُشكل مصدرًا لقوة عسكرية، ولا يخشى معه من زيادة سكانية في القوة القطبية المناوئة، لا سيما الصين في العقود المقبلة.. لكن، ما الذي يمكن أن يُحدِق بالولايات المتحدة، حال تغيرت تلك الحقائق السكانية، وتفاقمت نسب زيادة الشيوخ عن الشباب، والكهول غير القادرين على العمل، عن السواعد الفتية، التي لا تنفك تقيم بنيان أمريكا القوية مالئة الدنيا وشاغلة الناس؟.
ترتبط الأزمنة الإمبراطورية بمدى القوة والقدرة الاقتصادية للدول والممالك، وهذا ناموس طبيعي، جرت به المقادير منذ آلاف السنين.. ذلك أنه، كلما زاد ثراء شعب ما، وبلغ ناتجه الإجمالي حدًا يفوق احتياجات مواطنيه في الداخل، فإن القائمين عليه يسرعون تلقائيًا إلى الخارج، ومن هنا تنشأ الهيمنة الاقتصادية أول الأمر والسياسية تاليًا، وكلاهما يقومان في ظل حماية عسكرية.. ومع مضي السنين، تُصاب الإمبراطوريات بفيروس الاهتراء من الداخل، وتبدأ في فقدان مقوماتها الاقتصادية، ثم تُعاني من حالة انكماش وعدم مقدرة على الإنفاق على مستعمراتها في الخارج.. الاقتصاد إذًا يرتبط بمستقبل الدول والقوى العظمى، قبل أن تفعل السياسة فعلها.. ومن هنا، يمكن الربط بين حالة الشيخوخة، ومستقبل الولايات المتحدة، على الأصعدة كافة، وليس على صعيد واحد.
البداية هنا تكون عادة من عند نقص الأيدي العاملة، مما يقود إلى انخفاض في الإنتاجية، وارتفاع تكاليف العمالة، وتأخر توسع الأعمال التجارية، وكذلك انخفاض القدرة على التنافس مع القوى الاقتصادية الأخرى حول العالم.. وفي حال الولايات المتحدة، ستكون الصين والهند الدول المرشحة للتنافس.. عطفًا على ذلك، فإن نقص الأيدي العاملة يمكن أن يقود إلى استجلاب مزيد من الهجرات ذات الأيدي العاملة الرخيصة، غير أن هذا التوجه سيؤثر في حضور الرجل الأبيض في البلاد، ويُصيبه عدديًا، ومن هنا تتحقق مخاوف (الواسب) The Wasp الأمريكي من الاضمحلال.. و(الواسب) مصطلح له عدة معاني، في علم الاجتماع، يُعبِّر عن جزء من سكان الولايات المتحدة، الذين أسسوا الأمة الأمريكية، وجعلوا تراثهم وثقافتهم ثقافة وتراث الولايات المتحدة، وقد أصبح المصطلح اليوم أكثر شمولية.. لكثير من الناس، الواسب يشمل الآن معظم السكان البيض، ممن ليسوا أعضاءً في أي مجموعة أقلية.
الجزئية الثانية التي تترتب على النقص المقبل في عدد السكان الأمريكيين، مرتبطة بارتفاع تكاليف الرعاية الصحية، إذ من البديهي القول، إنه كلما ارتفعت أعداد المسنين، زادت الحاجة إلى تعزيز قطاع الرعاية الطبية، مما يقتطع كثيرًا من الناتج المحلي لصالح الإنفاق الذي لا يعود بمردود مقابل، وهو ما يؤثر حُكمًا في ميزانية بقية قطاعات المجتمع الأمريكي.. ويتصاعد القلق المجتمعي، حين تتزايد نسبة المُسنين، مقابل نسبة الشباب في أي دولة حول العالم، وذلك باختصار من جراء ارتفاع نسب الضرائب على صغيري العمر، لتوفير الرعاية للكبار، التي عادة ما تكون مرتفعة التكاليف، بجانب المعاشات التقاعدية، وهو أمر مُزعج للغاية بالنسبة إلى الدول الصناعية المتقدمة بنوع خاص.
●●●
المعضلة التي تواجهها الولايات المتحدة في اللحظة الراهنة، ربما تتجاوز مجرد المرحلة العمرية للرئيس، أو الحاجة إلى تجديد الدماء، وإنما تتجسد في عدم قدرتها على تحديث مبادئها بما يلائم المرحلة الدولية الراهنة، والتي باتت مختلفة سياسيًا واقتصاديًا ودوليًا عما سبقها من مراحل، وهو ما يفسر حالة الانقسام في الداخل الأمريكي، حيث تبدو الأوضاع الاقتصادية في الوقت الراهن مختلفة إذا ما قورنت بعدة عقود ماضية، بينما كانت الصراعات الدولية شبه محسومة لواشنطن على حساب خصومها، بسبب فارق الإمكانات الكبير على كافة الأصعدة، وبالتالي يبقى الاستمرار على نفس النهج الماضي في الوقت الراهن، ضربًا من الهراء السياسي، وبالتالي تعميم مبادئ التجارة الحرة، وقبول المهاجرين، والاقتصاد المفتوح، والدعم غير المشروط للحلفاء في أوروبا، وكذلك التدخلات العسكرية المباشرة، بمثابة سياسات غير مقبولة من قِبل المواطن، رغم جذورها العميقة في السياسة الأمريكية، وهو ما مثل انعكاسًا لحالة الرفض المُطلق من قِبل مؤيدي ترامب لفكرة خسارته في الانتخابات الماضية، رغم حالة السلاسة التي هيمنت على التغيير في مقعد الرئيس، لقرون طويلة، دون أي مشاهد عنف أو حتى احتجاجات في الشوارع.
وهنا يمكننا القول بأن الحديث المتواتر عن (شيخوخة) الرئيس، في الولايات المتحدة، ربما تحمل في طياتها، ليس مجرد عجز المرشحين للمنصب عن تقييم مدى لياقتهم للوفاء بالتزاماتهم في مثل هذا المنصب، وإنما عجز الإدارات المتعاقبة عن مجاراة الواقع، عبر الإصرار على التلويح بمبادئ الأربعينيات، والتي عززها الانتصار في الحرب الباردة في التسعينيات من القرن الماضي، في ظل مرحلة باتت تحمل إطارًا تعدديًا، مع صعود العديد من القوى الدولية، التي يمكنها مزاحمة واشنطن على قمة النظام الدولي، بينما شهدت اختلافًا كبيرًا على مستوى الداخل الأمريكي، مع تراجع الأوضاع الاقتصادية، ولو نسبيًا، ومعاناة المواطن، جراء السياسات التي تبنتها الإدارات المتعاقبة، لخدمة أهدافها الدولية.
شيخوخة المبادئ الأمريكية، هي من النقاط التي يجب التوقف أمامها كثيرًا.. فعندما يطلق الرئيس، جو بايدن، عبارة (الإرهاب المحلى)، على الاحتجاجات التي شهدتها الولايات المتحدة، عند خسارة منافسه الرئاسي في الانتخابات الماضية، دونالد ترامب، والتي انتهت بمشهد اقتحام الكونجرس، تزامنا مع التصديق على النتائج في السادس من يناير 2020، في سابقة ربما لم تحدث من قبل في تاريخ الديمقراطية الأمريكية، لتكون بمثابة بقعة سوداء في الثوب الأبيض، الذى طالما سعت الإدارات المتلاحقة، إلى الترويج له لعقود طويلة من الزمن، لتتوالى بعدها السقطات، وأبرزها التحرك نحو عزل الرئيس السابق ترامب، بعدما ترك منصبه، ليكون الإجراء، في حد ذاته، سابقة أخرى، رغم فشله، على اعتباره محاولة لمنعه من ممارسة حقوقه السياسية، ليكون ضربة أخرى، وربما لن تكون الأخيرة، لثوابت واشنطن.
وعلى الرغم من أن المشاهد التي لخصت الوضع الأمريكي خلال السنوات الأربع الماضية، تقتصر على المستجدات في الداخل، إلا أن ثمة حالة من الارتباك، باتت تعانيه الدبلوماسية الأمريكية، في الأيام الأولى لإدارة بايدن، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن ثوابت واشنطن، وعلى رأسها الديمقراطية، والتي تُعد حرية التعبير، وما تحمله في طياتها من الحق في التظاهر والاحتجاج، أحد دعائمها، هي في جوهرها أحد أهم الركائز، التي طالما انطلقت منها الإدارات المتعاقبة، لصياغة سياساتهم الخارجية.. لتجد الإدارة الجديدة نفسها أمام مأزق حقيقى، تحتاج معالجته إلى إعادة صياغة المفاهيم التي طالما بشرت بها، لتضعها على قمة النظام الدولى.
فعندما تصف إدارة بايدن الاحتجاجات، وإن شابها العنف، بـ (الإرهاب)، ربما تجد نفسها أمام معضلة (الازدواجية)، عندما يهرع مسئولوها، لوصف المُحتجين في دول أخرى، تضعهم واشنطن، في قائمة (الخصوم)، بـ (أيقونات) الحرية أو (نشطاء) الديمقراطية، وهو ما يساهم بصورة كبيرة في تفريغ المبادئ الأمريكية من جوهرها، حيث ستتجلى حالة من التناقض الصارخ بين خطاب الداخل للتعامل مع أنصار المعارضة السياسية، من جانب، والدبلوماسية التي تتبناها أمريكا مع محيطها الدولى من جانب أخر.
ولعل الازدواجية ليست بـ (العِلة) الجديدة التي تعانيها واشنطن، إلا أن أعراضها كانت متوارية خلف الاستقرار السياسى في الداخل، وما يمكننا تسميته بـ (هشاشة) المعارضة، في إطار صفقة رسمها آباء أمريكا الأولين، والتي قامت في الأساس على تداول شبه منتظم للسلطة بين الحزبين الرئيسيين، الجمهورى والديمقراطى، تبادلا فيها مقاعد الرئاسة والكونجرس، بما يضمن قدر من التوازن السياسى، لا تسمح لفريق بالاستئثار المُطلق بالسلطة، وهو الأمر الذى شهد اختلافًا جذريًا في السنوات الأخيرة، مع وصول ترامب للرئاسة، في ظل الحالة التي صنعها، وخرج من خلالها عن الإطار التقليدي للثوابت السياسية الأمريكية، ليجد دعمًا بعيدًا عن القوالب الحزبية، عبر خروج قطاع كبير من الشارع غير المسيس لتأييده، بعيدًا عن الحسابات التقليدية.
وهنا يصبح الموقف الأمريكي من الاحتجاجات في دول الخصوم، على غرار ما حدث في روسيا لدعم المعارض ألكسندر نافالنى، على سبيل المثال، مثارًا للجدل، حيث أضفى خطاب الداخل في التعامل مع الاحتجاجات المؤيدة لترامب، صفة (الإرهاب) للمحتجين الذين يسعون لإثارة الفوضى، لتلتصق بمفهوم (الديمقراطية) التقليدي الذى طالما روجت له واشنطن، وهنا يصبح الرهان على مواقف أمريكية قوية لدعم النشطاء، يبدو خاسرًا، حيث سيصبح دعم واشنطن مُقيدًا بدرجة كبيرة في ظل مستجدات الداخل.. والأمر نفسه ينطبق على العديد من المواقف الأخرى، في الشرق الأوسط، فيما يتعلق بخطط بايدن للتقارب مع إيران، وموقفه من أذرعها الإرهابية، خصوصًا بعدما قررت الإدارة رفع ميليشيا الحوثى من قائمة التنظيمات الإرهابية، برغم ما ارتكبه من انتهاكات صارخة، وتهديدات كبيرة لدول الجوار وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، عبر إطلاق طائراتها المسيرة على المدنيين، ثم عادت نفس الإدارة لإدراج الحوثيين على قوائم الإرهاب، مرة أخرى، لأنها تهدد إسرائيل هذه المرة.. لتتجلى صورة أخرى للازدواجية، بين المفاهيم التي طالما استهلكتها الإدارات المتعاقبة لتنفيذ رؤيتها في العديد من مناطق العالم.
مفاهيم واشنطن تبدو في حاجة إلى إعادة صياغة في المرحلة المقبلة، خصوصًا ما يتعلق بالديمقراطية والإرهاب، في ظل اختلاطهما غير المسبوق في الداخل الأمريكي، عندما وصفت إدارة بايدن أحد مظاهر الديمقراطية، بحسب المنظور التقليدي لأمريكا (الاحتجاجات) بـ (الإرهاب المحلى)، لتخلق ما يمكننا تسميته بـ (إرهاب الديمقراطية)، في انعكاس صريح لشيخوخة المبادئ الأمريكية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.